الإدعاءات المعرفيّة والأكاديميا وعظمة كلمة معرفش

 

الإدعاءات نوعين (١) نوعيّة Qualitative و (٢) كميّة Quantitative. عشان تعمل إدعاء نوعي بخصوص ظاهرة ما وتقدر تسمّيه إدعاء موضوعي (مش ذاتي، مش مُجرّد رأي شخصي) لازم تستحضر دليل تجريبي أو دليل قابل للتّكذيب falsifiable. عشان تعمل إدّعاء كمّي ف تقول تعبيرات زي “أكتر” و “أقل” و “أرجَح” و أكثر إحتمالاً” و “أندر حدوثاً” و “النسبه المئويه كذا” لازم تكون قادر على تقديم طرح إحصائي يوضّح جبت الأرقام المئويه أو الترجيحات الكميّه منين وليه ترجيحاتك أصوَب من ترجيحات غيرك. والبيانات والإحصائيات مش كفايه بس تبيّنها بأرقام لكن لازم كمان تكون فاهم بتقرا الأرقام إزاي، لإن الأرقام مش بتقول حاجه بنفسها ولكن آلية ومنهجية قراءتك للأرقام هي اللي بتطلّع منها إدعاء كمّي. كل ده لما بيتعمل في المُجتمع العلمي تحت مظلة ال peer review بيتعمل تحت نظر متخصصين كل واحد فيهم عنده الأدوات والمنهجيات (وكمان الإنحيازات) اللي تخلّيه بيحلل ما وراء الإدعاء والإشكاليات المعرفيّه اللي ممكن تأثر على النتايج اللي مش هايشوفها القارئ الهاوي وغير المتخصص (ال layman). وبالتالي الأكاديمي بيوزن كلامه بميزان من دهب لما يكلم متخصصين عشان عارف إنه هايترفع عليه سكاكين النقد لو حاول يتجاوز ويدّعي ما لا يُمكن له تقديمه أكاديمياً. أما اللي بيكتب للعامّه وغير المُتخصصين ف بيقول زي ما هو عايز عشان لا الأكاديمي هايضيع وقت معاه عشان يصلحله (لإن عنده آراء في الوسط بتاعه أجدر بالتعاطي معاها) ولا العوام عندهم الأدوات للإختلاف معاه موضوعياً. وبالتالي خارج مساحة التّخصص هو بيئه خصبه للشعبويّه وال misinformation.
تاني نقطه وهي جديره جداً بالإهتمام هي تعريف ما يُمكن أن يُطلق عليه كلام “أكاديمي”. في ناس كتير بتستخدم كلمة أكاديمي بمعنى موضوعي أو غير مُنحاز، وبالتالي ف أي حد إقتبس كلام من كتاب بيحط على الإقتباس ده شعار “الكلام الأكاديمي”. الحقيقه هي إن النقاش الأكاديمي بيكون بين إتنين متخصصين في مجال مُشترك وعندهم درايه بمعطيات الموضوع اللي بيناقشوه ومُطلعين على آخر ما توصل له المتخصصين التانيين في الوقت الحالي وعارفين كويس يميّزو بين الآراء وبين المعطيات الموضوعيّه. يعني لو اتنين معاهم دكتوراه واحد في الطب والتاني في الفيزيا الكميّه وإتناقشو في الأدب اليوناني ف ده مش نقاش أكاديمي حتى ولو كان طرفيه حاملي شهادات دكتوراه، ببساطه لإنهم متخصصين في مجالاتهم ولكن مش في المجال اللي بيناقشوه ولكل مجال آلياته ومعارفُه اللي بتحتاج دراسه خاصّه للإلمام بيها وبفنّياتها. وعليه، ف كلمة الأكاديميا مش هي الحل لإضفاء الموضوعيّه. الشخص بيبقا أكاديمي لما يخلص تدريبه على أيدي مُختصّين ولما ينشر محتوى يقوم على تقييمه مُختصّين، غير كده أي إدّعاءات هي بلا أدنى قيمه.
تالت حاجه وهي سطور في عظمة ال “معرفش”. في أي إدعاء في ٣ إحتمالات موجودين على spectrum طويل من درجات اليقينيّة: إدعاء الإثبات، إدعاء النفي، وإدعاء تالت -بتهمله أغلب النّاس حُباً في اليقين- وهو إننا منعرفش. من السهل أوي إن حد يفتح كتاب ويطلع منّه إقتباس ويقول العالم الفلاني قال كذا، ويستخدم الكذا ده عشان يدّعي إننا نعرف كذا بشكل يقيني، أو إقتباس عشان يدّعي إننا نعرف إن كذا غلط أو كذا محصلش. ولكن الإدعاء بإننا منعرفش أو معندناش ما يكفي من المعطيات والأدليه (أو حتى المنهجيّة) يتطلّب إطلاع على أبعاد المعلومات المُتاحه وقدرات ومحدودات المنهجيّة. وبالتّالي غير المتخصصين في أي مجال أسرع ميلاً للإثبات والنفي لإنهم أكثر إنتقائيه وعشوائيه في التعامُل مع المصادر، وغير قادرين على التمييز بينها من حيث الجوده والتخصص ورجاحة المنطق والمنهج. أما المتخصص اللي عارف أدواته ف بيعرف إمتا يقدّم إدعاء بالإيجاب أو النفي وإمتا يُعلن إنه مش من الآمِن/الدّقيق التسرُّع في إدعاء ما لإن المعطيات غير كافيه. لإن في وسطه الأكاديمي لو إدّعى شئ يتوجَّب عليه بالضّروره تقديم إثبات قادر على إقناع الآخرين ذوي الدراية المنهجية. وبالتّالي ف التخصص مهمّ لإنه بيفتح إحتمالية تالته في الإدعاءات ميقدرش غير المتخصص يبتّ فيها لإنه بالأساس ميعرفش الفرق بين المجهول عنده شخصياً (اللي ميعرفوش عشان مقراهوش) والمجهول في الوسط العلمي (اللي محدش يعرفه عشان مفيش معلومات متاحه عنه).
أكاديمياً لما تقتبس كلام حد لازم تكون فاهم المقدمات اللي بيتحرك منها لإن نفس العباره ممكن يكون ليها نتايج مُختلفه على حسب النسق الفكري اللي إتاخدت منه. الإقتباس لا يؤسس للحقيقه، والحُجَج بتتبني على مدى إكتمال النسق الفكري وقدرته على تفسير الظاهره محل الدّراسه. الإقتباسات ما هي إلا علامه للإطّلاع وهاتكون مهمه لو بتقتبس جُزء عشان تحلله وتنتقده، فيما عدا ذلك لو روحت إقتبست تشومسكي أو هايديجر أو فوكو عشان تدّعي صحة كلامك بدون ما تكون فاهم الأنساق الفكريه اللي إقتباساتك جايه منها ف أكاديميا هايترد عليك بإن إقتباساتك بلا قيمه بمعزل عن سياقاتها الفكريه. الكُتّاب مش سُلطه حقيقيّه، والكُتّاب بتختلف، والكُتّاب لا تتحرك بنفس المقدمات في العلوم الإنسانيّه بالأخص. المراجِع والإقتباسات مش بتتوزن بالكيلو وأوقات كُترها وعشوائيتها بتكون دليل على عدم أصالة البحث وعدم إدراك صاحبه للفكره اللي بيقدمها.
نقطه أخيره، اللي بيكتب شئ “أكاديمي” لازم يكون على درايه بما وصل له البحث الأكاديمي في أروقة الجامعات عشان يضيف طرح جديد للأكاديميا. يعني مينفعش تكرر كلام اللي قبلك وتسمّي اللي جمعته عمل أكاديمي، حتى لو عايز تسمّيه survey ف ده في حد ذاته مجرّد حصر مش بحث. ولما بتكتب شئ أكاديمي لازم تكون شخص ذو وجهة نظر، يعني بحكم إنك إطلعت على موضوع محدد ودرسته وتخصصت فيه ف بيكون عندك وجهة نظر بتطرحها وتقدم عليها أدلّه وبتربط ده بال status quo في الأكاديميا، مفيش حاجه إسمها أنا بعمل كتاب أكاديمي يتخلص في مجموعه من الإقتباسات والمراجع. الوصول للكتب هو أسهل حاجه، ومن أبسط الأشياء إن الواحد يطلع إقتباسات ويحشيها في كتاب وينشره، ده مش مؤشّر تماماً للقدره البحثيه والفكر. إطلاعك على أفكار غيرك ده يندرج تحت البند الأولاني في البحث وهو إن تشوف اللي قبلك قالو إيه قبل ما تقرر إنك تكتب. الكتابه الأكاديميه مش كتابه للكتابه، يعني مش بتصحى الصبح تقول أنا هاكتب عن كذا. الأول بتشوف إيه المناطق اللي متعملش فيها بحث كافي وبتشوف إزاي انت هاتقدر تضيف جديد، وبعد كده ييجي قرار إنك تكتب. الكتابه الأكاديميه بتتوجه لمُجتمع علمي في نفس التخصص والتخصصات القريبه وبيمر بمرحلة peer review وبيتنقد كتير، وعشان كده الناس بتتعلم من خلال سواء الدراسه أو النشر، لكن الكتاب الموجّه لغير المتخصص (وخصوصا كمان لو اللي كاتبه غير متخصص) مبيبقاش إسمه كتاب أكاديمي. عادي أي حد يعبّر عن رأيه وينشر كتاب للمعارف والأحباب والأصحاب والمهتمين بالموضوع، لكن لوصف الأشياء بمسمياتها، وكمان للإنصاف، مينفعش نضفي على الكتب دي سمه مش فيها لإن بردو مش من المنصف نقيّمها بمعايير الأكاديميا.

Similar Posts