تكوين التوراة – مايكل لويس

الفصل الأول: مشاكل القراءة التقليدية، تكوين وبناء

التورآة هي الكتب (الاسفار) الخمسة الأولى في العهد القديم عند اليهود والمسيحيين في الكتاب المقدس، الكتاب الأول هو التكوين، الثاني هو الخروج، الثالث هو الأحبار (اللاويين)، الرابع هو العدد، والخامس هو سفر تثنية الاشتراع (التثنية).

في النظرة التقليدية لكتابة التورآة، بيتم نسب الخمس كتب دول لموسى النبي وبيتم تسميتهم باسفار موسى الخمسة، المشكلة الوحيدة اللي لاحظتها النظرة التقليدية تقريبًا، هي انه في نهاية سفر التثنية مذكور موت موسى، وكان حل النظرة التقليدية ببساطة ان الاسفار الخمسة كتبهم موسى ما عدا اخر فصل في كتاب تثنية الاشراع كتبه تلميذه يشوع ابن نون وسجل فيه موت مُعلمه موسى، دي النظرة التقليدية لكتابة التورآة، نظرة بسيطة وسلسة جدًا، الكاتب هو شخص واحد، الشخص دا هو موسى النبي، الفصل الاخير فقط اضافه تلميذه وخلاص على كدا.

مع مرور الوقت وقراءة التورآة بنوع من التمعن، ابتدا بعض القُراء يلاحظوا مشاكل تانية غير مشكلة موت موسى لكن المشاكل دي النظرة التقليدية متعاملتش معاها بشكل مُرضي، دا لو اعتبرنا ان حل مشكلة موت موسى بان الكاتب الاخير كان يشوع ابن نون حل مُرضي اصلًا، لإن الاسلوب الادبي اللي مكتوب بيه الفصل الاخير من التثنية مش مختلف خالص تقريبًا عن بقية سفر التثنية، مفيش اثر خالص ان الاصحاح الاخير مكتوب بايد مختلفة عن بقية السفر، احد المشاكل الأُخرى ان التورآة برضو على سبيل المثال بتوصف موسى باعتباره اكتر رجل متواضع على الأرض، مش منطقية اوي ان حد يوصف نفسه بالشكل دا، وغيره.

المشاكل اللي لاحظها القُراء في التورآة مشكلتها بالنسبة للتقليد انها بتظهر ان موسى مش هو اللي كتب التورآة، لكن احنا هنركن النظرة التقليدية دي على جنب دلوقتي وهنحاول نمشي ورا المشاكل اللي لاحظها القُراء والنُقاد، لإن نفس المشاكل اللي اظهرت ان موسى مش هو الكاتب، قدرت بشكل ما تدلنا على الكاتب الحقيقي للتورآة.

احد مشاكل التورآة مثلًا هو وجود تناقضات في عدة قصص، مرة بيتقال مثلًا ان الحيوانات اللي هتدخل الفلك هيكونوا زوجين من كل نوع ومرة بيقول ان اللي هيدخلوا الفلك 7 ازواج من الحيوانات الطاهرة ولكن زوجين من الحيوانات غير الطاهرة فقط، لكن مش زوجين من كل الانواع، التناقضات دي بتستمر بشكل متكرر في التورآة، ودا بيقودنا لمشكلة تانية، وهي مشكلة الـ Doublets او ممكن نترجمها باسم مشكلة الثُنائيات، وهي ان القصة تبقى مكتوبة مرتين مش مرة واحدة، احيانًا القصتين بيتكتبوا ورا بعض بشكل متتالي زي قصة الخلق مذكورة مرة في الاصحاح الاول من التكوين ومرة تانية في الاصحاح التاني، احيانًا بيبقوا القصتين متداخلين مع بعض زي قصة نوح والطوفان مثلًا، واحيانًا القصتين بيتذكروا مرتين كل واحدة في حدث وسياق مختلف كانهم قصتين مستقلتين في ازمنة مختلفة زي قصة ضرب موسى للحجارة لما كان شعب بني اسرائيل في الصحرا عشان تطلعلهم مياه، مرة اتذكرت في سفر الخروج ومرة تانية في سفر العدد وغيرهم، الثنائيات مالية التورآة خصوصًا في سفر التكوين بدءًا من قصة الخلق مرورًا بقصة نوح وصولًا لقصص ابراهيم واسحق ويعقوب واخيرًا يوسف واخواته.

الثنائيات مكانتش مجرد ذكر القصة مرتين، لكن كانوا اوقات كتير ومعظم الوقت بيختلفوا في التفاصيل إلى حد التناقض، وفي اسلوب الكتابة، واحيانًا في اهتمامات الموضوع، اشهر اختلاف واضح بين القصص هي ان الثنائيات في مرة يتم كتابة القصة مرة بتسمية الالوهة بكلمة “إيلوهيم” (مترجمة في العربي “الله”) ومرة تانية يتم تسميتها باسم “يهوَه” (مُترجمة في العربي “الرب”)، القصة اللي بتستعمل إيلوهيم مش بتستعمل يهوه، في قصة الخلق على سبيل المثال في الاصحاح الأول، الالوهة بيتم تسميتها إيلوهيم، في الاصحاح التاني بتتسمى يهوَه، ونفس الكلام بيستمر في ثنائيات كتير جدًا في سفر التكوين.

التناقضات والاختلافات دي مش بس وضحت ان الكاتب مش هو موسى، لكنها ابتدت توضح بعض الخطوط وتشكل دليل لماهية الكاتب الحقيقي للتورآة، مشكلة الثنائيات تحديدًا كشفت ان اللي كتب التورآة مكانش كاتب واحد، لكنهم اتنين، واحد دايمًا بيستعمل اسم يهوه، وتم تسمية مجموع القراءات التوراتية اللي بستعمل نفس اسلوب الكتابة بالشكل دا باسم التقليد اليهوي “Yahwist”، وفي الانجليزي بنسميه المصدر J أو Y، ودا لإن اسم يهوه بالألماني هو Javeh وبما ان اهم النقاد اللي اشتغلوا في البحث اللي من النوع دا او اللي بدأوا فيه على الأقل كانوا ألمان، فتم تسمية المصدر J، وتم تسميته برضو Y اختصارًا لاسم يهوه بالانجليزي YHWH أو Yahweh بما انها اللغة السائدة يعني، والمصدر التاني اللي بيستعمل اسم إيلوهيم تم تسميته بالمصدر الإيلوهيمي “Elohist” أو المصدر E من كلمة  Elohim.

مع استمرار الدراسات على الموضوع، اكتشف النقاد ان مادة كبيرة جدًا من اللي كانوا بيسموها المصدر الإيلوهيمي هي في الحقيقة مش مصدر واحد ومش كاتب واحد برضو، لكنها مصدرين، اكتشفوا ان بعض القصص مكانتش ثنائيات فقط، لكنها كانت ثلاثيات، اكتشفوا ان في تناقضات داخل نفس المصدر واهتمامات مختلفة بمواضيع الكتابة واساليب ادبية مختلفة، المصدر الإيلوهيمي مطلعش مصدر واحد، لكنه اتضح انه مصدرين، لكنهم مقدروش يميزوا بين المصدرين دول في الأول لان الاتنين كانوا بيسموا الألوهة باسم إيلوهيم، واتضح ان المصدر الجديد اللي المصدر الإيلوهيمي بيحتويه دا بيهتم أوي بالعبادات والطقوس والذبائح والتشريعات، اهتمامات المصدر دي كلها كانت كهنوتية من الدرجة الأولى، وعشان كدا تم تسمية المصدر التالت دا باسم المصدر الكهنوتي “Priestly” أو المصدر P من كلمة Priest بمعنى كاهن.

الكلام دا كله، بينطبق فقط على الأربع اسفار الأولى، التكوين والخروج والأحبار والعدد، لكن مش بينطبق على سفر تثنية الاشتراع، سفر التثنية بيتميز باسلوب مختلف تمامًا عن الاربعة اسفار الأولى، جايز يكون بيعيد بعض التشريعات لكن اسلوبه مختلف والفاظه مختلفة ومش بيتسم باي شيء من الحاجات اللي بتتسم بيها المصادر السابقة غير يادوب بس بعض النصوص اللي بتنتمي للمصدر الكهنوتي مش اكتر، سفر التثنية ببساطة ليه مصدر خاص لوحده تم تسميته بالمصدر التثنوي “Deutronomist” أو المصدر D من كلمة Deuteronomy بمعنى التثنية.

النوع دا من القراءة والنقد والتفكيك وضحلنا ان السؤال الصح مش هو: “من هو كاتب التورآة؟”، ولكن السؤال الصح: “من هم كُتاب التورآة؟”.

احنا بالشكل دا اصبح على الأقل عندنا 4 كُتّاب، يا ترى مين فيهم اللي كتب الأول ومين كتب بعد كدا؟ هل الكُتّاب كانوا عارفين بعض؟ هل اعتمدوا على بعض في الكتابة؟ يا ترى عاشوا امتى وانهي احداث اللي عاصروها وكتبوا فيها؟ ازاي الاحداث دي شكلت الكتابات بتاعتهم وازاي ممكن تساعدنا نفهم كتاباتهم وليه كتبوا من الأساس؟ مين وليه جمع كتاباتهم وحطهم في كتاب واحد متسلسل بالمنظر اللي في ايدينا حاليًا؟ هل كانوا فاهمين او عندهم اي نوع من الادراك ان اللي بيكتبوه دا هيترص في الاخر جنب بعضه مع بعض الكتابات الأُخرى ويتم تسميتهم في النهاية باسم “ألكتاب المقدس”؟

النظرية او الفرضية التأريخية اللي بتساعدنا نجاوب على الاسئلة اللي بالشكل دا فيما يخص التورآة اسمها النظرية الوثائقية او الـ Documentary Hypothesis، او اختصارًا الـ DH، واحنا هنتكلم عنها اعتمادًا على كتاب  بعنوان “Who wrote the bible?” لمؤلفه الباحث التوراتي والمتخصص في الدراسات اليهودية ريتشارد إليوت فريدمان- Richard Elliott Friedman بجامعة جورجيا. النظرية شكلتها ملاحظات وسقطات ونجاحات مؤرخين ونُقاد على مر عصور مختلفة واهم من اضاف لتشكيلها كان المؤرخ والباحث التوراتي الألماني يوليوس فلهاوزن-  Julius Wellhausen، وطبعًا طورها ناس تانية بعديه لإن مش كل اطروحات فلهاوزن كانت متناسقة مع الملاحظات والأدلة، النظرية كطبيعة اي نظرية او فرضية او فكرة او طرح فلسفي او تأريخي او علمي مبتقدرش تجاوب على كل الاسئلة، لكنها بتساعدنا نجاوب على مجموعة جيدة من الاسئلة ومعظم الملاحظات ووضعها في إطار متناسق نقدر من خلاله نكوّن نظرة مش بطالة لتاريخ الشعب العبراني في العصور القديمة ولكيفية تكوين وفهم التورآة في إطارها التاريخي والثقافي بشكل اكتر انضباطًا من القراءة الاعتباطية او التلقائية غير المنتظمة، اهم حاجة وضحناها دلوقتي هي ان من هنا ورايح، احنا مش بنقرا التورآة باعتبارها كتاب واحد لمؤلف واحد، لكن باعتبراها 4 كُتب لـ 4 مؤلفين مختلفين كل واحد غالبًا باهتمامات مختلفة واهداف مختلفة للكتابة وبالتالي معاني مختلفة كليًا للقراءة، النظرة دي بتغير في فهمنا لحاجات كتير جدًا هحاول اوضحها في الكتابات الجاية وبقية السلسلة على قد ما اقدر بشكل غير ممل وفي نفس الوقت غير مُسرف في السطحية بقدر الإمكان.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *