وأخيراً .. تكلم المُشير أحمد إسماعيل

الإطار السياسي وملابسات النشر

بعد ما يقرب نصف القرن على حرب أكتوبر، مازالت أسرار تلك المرحلة من النزاع العربي الإسرائيلي.. حبيسة أقبية وسراديب أجهزة الدولة السيادية، التي أبت أن تُفرج عن وثائقها حتى اليوم، وكأن قدَرَنا – كمصريين – أن نعرف عن الحرب فقط.. مما تيسر من وثائقَ مفرج عنها في دول الغرب، أو ما جاد به من شاركوا في الأحداث.. في مذكراتهم. أما عن المذكرات، فهي – بطبيعة الحالة – تؤرخ للأحداث من منظور صاحبها، فلا بد من قراءتها بحذر.. وفي سياقها التاريخي والسياسي.

لا يختلف اثنان أن اللغط.. الذي أثاره الخلاف الحاد بين السادات والفريق سعد الدين الشاذلي، وما نتج عنه من مذكرات، طغى – بشكل كبير – على وعي القراء.. واهتمامهم؛ في قضية تقييم حرب أكتوبر (وأنا لست بصدد التقييم.. فقد عالجت المسألة في مقالاتٍ سابقة).

… رؤية الشاذلي حققت أثراً بالغاً في الحقبة الأخيرة، لأنها تسَيَّست بمواقف صاحبها.. التي اتسقت مع سياسات إقليمية، أرادت الحط الممنهج من انتصار أكتوبر.. من جانب، وتصفية الحسابات مع زعمائها.. من جانب آخر. مواقف الشاذلي السياسية – التي بلغت في شططها مباركة اغتيال السادات، والإضفاء المبالغ فيه للصبغة الدينية على كل شيء – جعلت التقاط الإخوان المسلمينٍ له، وتحويله إلى «أيقونة« لهم.. أمراً طبيعياً؛ انطلاقاً من الحملات الممنهجة من منابر قطر، وصولاً إلى تكريم أسرته.. على يد محمد مرسي، الذي لم يخجل من أن يجلس إلى جوار قتلة السادات.. في ذكرى أكتوبر.. عام 2012.

بين كتابات الشاذلي.. والردود – المفصلة والممنهجة – من قادة القوات المسلحة كالجمسي وكمال حسن علي واللواء جمال حماد – الذي نشر بحيادية مراسلات وردود الشاذلي، وردوده عليها بشكل علمي – كان الجميع يتساءل.. حول الرجل الوحيد، الأجدر بالتعليق على الحرب.. أكثر من أي واحدٍ آخر، وهو وزير الدفاع.. القائد العام للقوات المسلحة في الحرب، المشير أحمد إسماعيل.

فالخلاف بين الشاذلي وإسماعيل – أثناء وجودهما معاً.. ضمن القوة المصرية في الكونغو سنة 1960 – جعل الشاذلي وكُتابٍ آخرين – يدورون في فلكه السياسي – يُمعنون في تصوير إسماعيل.. كرجل «وصولي، ضيق الأفق وهرِم، لم يصل إلى سُدة قيادة الجيش في عصر السادات.. إلا لأن الأخير كان يريده أن “يُرازي” الشاذلي؛ (وكأنه كان مضطراً لتعيينه في رئاسة الأركان)، فكانت مساهمته في وضع خطط الحرب وإدارتها منعدمة… فاختفى إسماعيل كالبخار – من وعي وتأريخ المصريين للحرب – وكأنه لا شيء؛ مجرد عجوز بائس مطيع.. وأليف لفنتازيا الحرب والسياسة التي جاء بها السادات«. للأسف لم تردع هؤلاء هيبة الموت.. في وفاة الرجل المبكرة، وعدم قدرته على الرد، فقد وافته المنية بسرطان الرئة في ديسمبر 1974، أي بعد أقلَّ من عام من فض الإشتباك.

التوظيف السياسي للشاذلي ومذكراته.. في ضوء ثورة 25 يناير، أعيد النظر فيها.. في ضوء سقوط الإخوان في 30 يونيو 2013، حينما بدأ الصحافيون البحث عن إرث المشير.. المُفترى عليه، فيكتشف ابنه السفير محمد إسماعيل (الذي كان وكيلا في المخابرات.. حتى تولى أبوه رئاسة الجهاز) – بين حاجيات أبيه – أوراقاً قليلة.. كتبها الأب، فنشر شذراتٍ منها في صحف مستقلة؛ كانفرادات. إلا أن الأمر استدعى نشرها كاملةً، فخرجت لنا أخيراً.. مذكرات «مشير النصر«. وعلى اقتضابها.. فإنه من الصعب المبالغة في أهميتها.

المذكرات.. هي أوراق شرع في كتاباتها المشير إسماعيل بعد إحالته للتقاعد سنة 1969، وفيها كتب صفحات – بمرارةٍ ظاهرة – عن كم الظلم الذي تعرض له، لأنه شخص كتوم وهادئ.. ولم ينتمِ لشلليات تلك المرحلة؛ فبعد محاولات المشير عبد الحكيم عامر التخلص منه، نجح (الفريق) محمد فوزي أخيراً في ذلك. وبين الإثنين، اختفى تاريخ الرجل الأكاديمي والعسكري الناجح، الممتد من سنة 1938، حتى قيادته لمعارك حرب الإستنزاف؛ كقائد لهيئة الأركان.. على الجبهة.

لم يكتب إسماعيل مذكراته للعامة أو الجمهور.. وإنما لأسرته، التي أراد لها أن تعرف الحقيقة؛ فعلى عكس من اغتالوا تاريخه.. لم يبحث عن دعم أو موقع جماهيري بارز. ثم يتوقف إسماعيل عن كتابة مذكراته، بعد أن وجد نفسه فجأة على رأس جهاز المخابرات العامة، ليعود فيكتب آخر أوراقه.. عن حرب أكتوبر في شهر أكتوبر 1974، وكأنها آخر كلمات.. يودع بها من سيكتشف تلك الأوراق. فعلى الأرجح، كان الرجل ينازع في معركته الأخيرة مع سرطان الرئة، الذي باغته.. ونقله إلى جوار ربه، بعد الانتهاء من تلك الأوراق بأيام.

إذاً، فإن الهدف من الأوراق لم يكن «الفرقعة«.. أو الإنتقام.. أوتحقيق المكاتب السياسية، وإنما جاءت ككلمات صادقة.. لعدد قليل من أحبائه، الذين يبدو أنهم لم يعرفوا – حتى – بوجودها، ولذلك.. فإن قدر المصداقية فيها كبير.

وبالرغم من كل ما تعرض له الرجل الوديع، الذي لم ينسَ أن يذكر – بامتنانٍ – سائقه الشخصي، ورجال الأمن على مدخل جهاز المخابرات، فإنه لم ينزلق.. لما انزلق إليه أعداؤه. فلم نجد أي كلمات مهينة للمشير.. عن مراكز القوى.. أو حتى سعد الشاذلي. فاحتفظ بهدوئه وتعففه حتى لاقى ربه.

المخابرات و «إدارة الخداع»

لا يسعنا أن نعرج على كل المعلومات المهمة.. في المذكرات، إلا أني سأركز على بعض ما جذب اهتمامي في مرحلة السادات. فلما تولى أحمد إسماعيل رئاسة المخابرات يوم 15 مايو 1971، جاء الرجل ومعه رسالة.. كان قد كتبها للرئيس الراحل جمال عبد الناصر؛ فيها خطة مفصلة.. لعملية محدودة تشمل العبور، والسيطرة على شرق القناة.. بعمق عشرة كيلومترات، تتبعها عملية أخرى.. وفق الظروف.

هذه – تحديداً – هي الرؤية الإستراتيجية العامة.. لحرب أكتوبر، التي تسابق كُتاب المرحلة.. على نسبها لأنفسهم؛ سواء كان الفريق محمد فوزي.. أو الفريق الشاذلي. أما الأخير، فقد أسهب فيما أسماه بعملية «المآذن العالية«.. الغير موثقة إلا في مذكراته. وكانت تفاصيلها – كما أوردها الشاذلي – تعكس أنها خطة تكتيكية.. وليست استراتيجية؛ بمعنى أنها تتبع رؤية عامة.. وتحدد طرق التنفيذ.

وبالتالي.. أين أتت الخطة الإستراتيجية؟ الإجابة عند إسماعيل الذي تجاهله الشاذلي.

بحسب المذكرات، كان مجيء إسماعيل لرئاسة جهاز المخابرات، مقصود به إعداده لقيادة الجيش.. قيادةً مبنية على معلوماتٍ واضحة، فقد أشرف إسماعيل على قيادة الجهاز.. في أخطر مراحله: مرحلة بناء الثقة في قدرة الجهاز على إدارة حرب المعلومات.. التي مهدت للعمليات العسكرية.

ورغم قصر مرحلة توليه رئاسة الجهاز، فقد أشرف إسماعيل على حملة مكثفة.. لمقاومة التجسس، أسقطت عدداً كبيراً من العملاء. وقد عرج على ملفيّ هبة سليم.. وعملية طناش راندوبولو، ودوره في إدارتهما. إلا أنه كشف عن معلومة خطيرة؛ وهي أنه – بسبب الكم الهائل لقضايا التجسس – قرر أن يستخدم الأمر لإيذاء إسرائيل؛ من خلال تأسيس ما أسماه بـ «إدارة الخداع«؛ وهي هيئة معنية بتسريب معلومات مضللة للعدو.. بشكل منظم. هذه الإدارة، كانت العقل المدبر وراء عملية الخداع الإستراتيجي، التي نفذها من خلال رجال المخابرات.. والعملاء.. وحتى الساسة.

ذكر إسماعيل بعض الأمثلة المثيرة؛ مثل تناقل المعلومات المضللة عن الجبهة.. باستخدام شفرة يسهل فكها، أو تسريب معلومات عن ضعف الحالة المعنوية والتسليحية للجيش.. بين دبلوماسيين، وهكذا.

قبل تلك المذكرات، لم نكن على علم بوجود إدارة سرية – داخل جسم جهاز المخابرات – تدير عملية الخداع الإستراتيجي، وتنسق بين أدواتها. ويبدو أننا الآن، يمكننا أن نربط تلك الإدارة بعمليتين خطيرتين (بالطبع لم يذكرهما):

الأولى: هي ما عُرف لاحقاً.. بـ «عملية الثعلب«. فقد أرسل السادات معلومات مضللة لعدة دول أجنبية.. تدّعي أنها صديقة لمصر، وذلك بغرض معرفة مسار تلك المعلومات ووصولها لإسرائيل. وبالإتفاق المباشر مع إسماعيل، تم تكليف مجموعة من المخابرات – بقيادة الوكيل رفعت جبريل – لمتابعة الأمر، حتى أمكن تحديد أماكن لقاء ممثلي أجهزة مخابرات تلك الدول مع الموساد.. في مقر شركة سياحية بمدينة في شرق أوروبا، لم يُعلن عنها حتى اليوم. وهناك، زرع الفريق أجهزة تنصت.. في الشقة المقابلة لمكان الاجتماع، وبهذا حصل السادات على «مقعد داخل غرفة الاجتماع«؛ فأمكنه التعرف على هوية المتآمرين.. وكيفية تضليلهم.

إلا أن الجانب الأخطر.. تمثل في العملية الثانية: وهي إمكانية ربط تلك الإدارة.. بأشرف مروان. فنحن نعلم أن مروان – في حديثه الأخير مع أهارون بيرجمان.. وهو في حالة غضب – أقر بأنه.. «لم يكن وحده من ضلل الموساد، بل كان هناك فريق كامل«.

كانت مقولة مروان لغزا – بالنسبة لي؛ فلو كان نشاطه مرتبطاً فقط بالسادات – بعيداً عن جهاز المخابرات ودون علمه – فكيف يمكنه القول أنه.. كان ضمن فريق كامل؟ وكيف للفريق أن يعمل بتنسيق وتنظيم شديدين.. في ترتيب المادة التي سيسربها للموساد – على مدار أعوام – إذا كان ذلك مجرد مبادرة شخصية من السادات؟

بالفعل، السادات كان يوكل للبعض مهاماً مخابراتية محددة، وكان مستشاره حافظ إسماعيل.. هو خط الاتصال مع المخابرات الأمريكية.. إذا أراد إرسال رسالة. لكن هذا لا ينطبق على قول مروان وتصريحاته.

هنا، لا يسعنا إلا القول بأن مروان، كان ضمن فريق.. أدارته «إدارة الخداع« – التي كانت تعمل تحت إمرة الرئيس أيضاً – وعلى الأرجح كانت تشمل السيد عبد السلام المحجوب، الذي شهد بوجود الفريق.. الذي كان مروان من أعضائه.

بحسب إسماعيل، فإن الخداع تم بتنسيق مع عملاء مصريين.. متمركزين داخل إسرائيل، وكان أحدهم – بحسب إسماعيل – قد جند «أكثر من عشرة ضباط إسرائيليين؛ نقلوا لنا خرائط النابالم، والألغام، وتمركز الأسلحة في خط بارليف«. بالطبع لا يسعنا أيضاً، إلا أن نستنتج أنه كان يشير للعميل 313: رفعت الجمال (Jack Bitton).

إدارة الحرب

لم يُسهب إسماعيل.. في قضية تطوير الهجوم.. أو خلافه مع الشاذلي، فقد أراد الحديث أكثر عن التاريخ.. وقد لاحت ساعة وفاته، بعدما نال منه السرطان. فيُعرفنا بتفاصيل أكثر؛ عن توقيت.. وكيفية ..عملية تصفية الثغرة، التي كانت على أهبة الاستعداد.. حال فشل المفاوضات.

فبمجرد أن هاجم الإسرائيليون السويس.. في خرق لوقف إطلاق النار، أعلن الرجل وضع خطة استنزاف.. ذكر فيها – بجدول طويل – حجم خسائر الأرواح المفزعة.. على الجانب الإسرائيلي، الذي بات وجوده على المحك، بعدما ضاق عنق الإمداد لأقل من ستة كيلومترات، وألويته السبعة.. محاصرة بخمسة فرق.. من كل الجهات، بالإضافة إلى خمسة فرق أخرى.. على الضفة الشرقية.

هذا الوضع الكارثي للإسرائيليين.. داخل الثغرة – كما كشفت لاحقاً.. مراسلات كيسنجر مع نظيره الإنجليزي يوم 3 نوفمبر – كانت تهدد بفناء القوات الإسرائيلية، حتى وإن تظاهرت القيادة السياسية هناك بغير ذلك؛ الأمر الذي أدى إلى التوصل لاتفاق مُلزم.. في السابع من نوفمبر، أدى لانسحاب الجيش الإسرائيلي.

إلا أن إسماعيل يذكر أن خطة سحق الثغرة، كانت جاهزة للتنفيذ بالفعل.. منذ أول أسبوع في نوفمبر، وقد ذكر أيضاً.. أن خطة أخرى كانت تنتظر الإسرائيليين على الضفة الشرقية، لكن دواعي الأمن القومي منعته من ذكر تفاصيلها، (وهذا منطقي.. إذا علمنا أنه كتب هذه الكلمات في أكتوبر 1974!)، لتظل تلك الخطة لغزاً.. لن نعرف شيئاً عنه.

رحم الله كل أبطال القوات المسلحة، وأتمنى أن يبدأ المتخصصون في دراسة وتحليل أوراق مشير النصر.. أحمد إسماعيل، ليس فقط لرد الاعتبار له.. ولكن من أجل حقنا في أن نعرف أكثر.. عن تاريخ تلك الحقبة الحساسة من التاريخ.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *