الوَعي المُعجمي ولا الوَعي المَجَازي

الوَعي المُعجمي ولا الوَعي المَجَازي

في عباره إستخدمتها كتير ومن المهم أحاول أشرحها بشكل أكبر. العباره هي إن الوعي لغوي. ممكن أي حد قرا في طبيعة اللغه يكون عدت عليه العباره دي، ولكن دايماً في إلتباس بيحصل بسبب كلمة اللغه اللي أغلب الناس بتفهمها في سياق اللغه المكتوبه والمنطوقه، زي العربي والإنجليزي. الحقيقه إن اللغه أبعد من كده. اللغه هي الإشاره لشئ. إشارات المرور تندرج تحت اللغه، الإشارات الجسديه لغه، الألوان لغه، الأشكال لغه، الصمت نفسه لغه بإعتباره قادر على توصيل معنى. بالمفهوم ده كل فِهم هو تلاقي بين شئ ومُتلقِّي ينتُج عنه إدراك. وعليه ف إدراك كل شئ يقَع في حيِّز اللغه. ولكن عشان تكون الفكره أوضح لازم نميِّز بين مستويين من اللغه، اللغه المُعجميَّه، واللغه المجازيَّه. اللغه المُعجميه هي مساحة التَّرادُف. لما تتكلم عن شئ ف تقول إنه يُمكن التعبير عنه بكلمة كذا بحيث تكون كلمة كذا مُكافئ وبديل. ودي مساحه محدوده ومُنضبطه بضوابط المُجتمع اللي بيستخدم اللغه. أما مساحة المجاز هي المساحه الأوسع وأدَّعي إنها الأسبق.

في المقال ده هاحاول أشرح ليه بقول إن المجاز أسبق على المعنى المُعجمي الحرفي.

خلينا نرجَع بالتَّاريخ في المرحله اللي مكانش الإنسان عنده فيها منهجيه علميه وتكنولوجيا تسمحله بإختبار الأشياء بقدر من الموضوعيه. في الوقت ده كانت المعرفه بالأشياء محصوره في تأثيراتها على الشخص نفسه. الشمس مصدر النور، وجود الشمس مُرتبط إرتباط وثيق بالرؤيه والدِفئ والمعرفه، وبالتَّالي بالأمان. والليل مُرتبط بإنعدام الرؤيه والبرد والجَهل، وبالتَّالي بالقلق. الخِبرات الأولى للإنسان مع الطبيعه مش مُجرَّد خِبره في تسمية الأشياء، ولكن فِهمها مُرتبط إرتباط وثيق بعلاقته بيها. الفِهم الحَرفي للظاهره هو لاحِق جداً ومتأخر جداً عن إدراكها المجازي. نفس الحال مع النَّار. إدراك الظواهر في ذاتها حديث للغايه، مُتأخِّر جداً وبعيد جداً عن قرون عاشها الإنسان وهو بيفهَم كل شئ بيتلامس معاه من خلال تأثيره الشئ ده عليه. لما تشوف الإنسان القديم وعلاقته بالحيوان، وإنه كان بيعتبر الحيوان الشرس مكمن لجوهَر الشراسه، وإنه لما ينتصر عليه ويهزمه بيقدر ياخد منه الشراسه دي، أو إنه يهزمه وياخد منه trophy يمنحله قوة الحيوان المهزوم ساعتها هاتقدر تُدرك إن الفِهم الحرفي مش هو الفِهم الأقدم تاريخياً.

عادة الناس بتتخيَّل إن المجاز هو المرحله التانيه في اللغه. يعني الأول بنتعلم معاني الكلمات وبعد كده بنقدر نستخدم المجاز. ولكن ده قصور كبير في فهم المجاز بيحصره فقط في المعنى المعجمي للكلمات. إسأل طفل صغير من العيله عندك “بتحبني أد إيه؟” وركز في حركة إيده وهو بيشاور وبيقول “أد كده!”، لما تشوف رد الفعل ده وتفكَّر ليه الطفل ربط مشاعر الحُب بالحجم المادي وشاور بإيده عشان يعبَّر عن حُب كبير أو حُب صُغيَّر هاتقدر تُدرك يعني إيه الوعي في جوهره مجازي. الإنسان بيتعامل مع غير المادِّي في ضُوء المادِّي لأن غير المادِّي غير مَفهوم، الحل الوحيد لفهمه هو إنه يتحصر في قالب مادِّي، فكر في الوقت كرحله، فكر في القيمه كحجم، فكر في المكانه كإرتفاع، فكر في النوم كموت، فكر في السعاده كإرتفاع أو إتِّساع، فكر في الحُزن كضيق وظُلمه. بإختصار إستخدم خبرة وجودك في الجّسّد كقالب تقدر تشكِّل بيه وعليه كل اللي متقدرش تُدركه بالحوار. ولكن لما بقولك فكَّر ده مش معناه إنك بتعمل ده بشكل واعي، بالعكس، إنت وعيك أصلاً بيشتغل كده. يعني دي مش حاجه بتعملها من خلال بذل مجهود.

المهارتين اللي مبني عليهم الوعي هم التصنيف والتشبيه، دي ترجمات ركيكه ل categorization و allegorization بالترتيب. الأولى مقصود بيها إنك بتصنَّف كل شئ إلى مجموعات، بيقول مثلاً George Lakoff إن الكائنات البسيطه زي الأمبيا بتقدر تصنَّف اللي بتتعامل معاه لشئ قابل للأكل أو غير قابل للأكل. وكل ما إزداد تعقيد الكائن إزدادت قدرته على التصنيف. بعد ما بتصنف الأشياء في مجموعات بتستخدم التشبيه عشان تقدر تستخدم معرفتك وتصنيفاتك السابقه في التعامل مع الحاجات الجديده اللي مقابلتهاش قبل كده. ف مثلاً لو في شئ صنَّفته على إنه أكل محبب بالنسبالك ف لو قابلت أكله جديده مكوناتها شبه الأولى على الأرجح هاتميل أكتر لتجربتها ولإنها تعجبك. والعكس صحيح، اللي مجربتوش قبل كده هايكون مش محبب بالنسبالك لو كانت مكوناته وريحته ولونه شبه حاجه إنت جربتها قبل كده ومعجبتكش. تخيل إن تفضيلاتك كلها مبنيه أساساً على التصنيف والتشبيه. تخيَّل إن التروما والحواجز النفسيه كلها مبنيه على الفكرتين دول – وإن كان بتراكيب أكثر تعقيداً.

إن كان التصنيف والتشبيه هم الأدوات الأساسيه للوعي ف ده معناه إننا بندرك كل شئ من خلال التصنيف اللي بنحطه فيه، وبندرك كل شئ بعد كده في ضوء الخبرات الأولى والتعامُلات السابقه مع شئ مُشابه. يعني تخيَّل إنك في الأصل بتُدرك كل شئ بإعتباره شئ تاني! هو ده بالظبط المجاز. بتعبير فيتجنشتاين إن المجاز هو “أن ترى أ بإعتبارها ب”، أو ممكن نختصر في المجاز بإعتباره seeing as، مش رؤية الشئ في ذاته ولكن الشئ من خلال آخر. إدراكنا لماهية الأشياء ظاهره حادثه على التاريخ الإنساني. وبالتالي لما تتعامل مع أغلب التراث الإنساني لازم تكون حذِر جداً في إنك تقراه بعين غير عيون كاتبيه. عينك اللي إنتزعت منها التكنولوجيا والعلوم إحترام المجاز، وذهنك اللي بقا متخيل إن ترتيب إدراكه للأمور هو الحركه من الحرفي للمجازي ومن ماهية الأشياء لتشبيهها. عشان تقدر تفهم العالم القديم لازم تتخلي عن إفتراضاتك بخصوص اللغه بإعتبارها وسيط شفاف قادر على نقل الحقائق كما هي في ذاتها. التخلي ده مش هايحصل إلا لما تُدرك اللغه بإعتبارها نضاره بتشوف بيها. تخيل نفسك في مبنى قديم فيه شبابيك من موزاييك ملون، النور اللي بيدخلك منها واخد ألوان الموزاييك، اللغه بتلوِّن كل شئ، نفس الظاهره ممكن تتقدملك مرتين وتأثر فيها بطريقتين مُختلفتين. اللغه بالنسبالنا زي الهوا، بما إنه مالوش لون ف أغلب الوقت إنا مش بنركِّز مع وجوده. اللغه فاعله ﻷننا مش واعيين ليها، يعني قدرتها في كونها taken for granted، ومش هاتقدر تُدرك أبعاد تأثيرها طول ما بتتعاطاها بدون تركيز.

هل بنفهم الحرفي أسرع ولا المجازي؟

في دراسه ل Susan Kemper سنة 1989 بعنوانPriming the Comprehension of Metaphors لاحظت Kemper بعد مجموعه من التجارب إن فِهم الجُمَل اللي فيها إستعارات metaphors بيكون أسرع من فِهم الجُمَل اللي معناها حرفي لو كانت الجُمَل اللي معناها حرفي معانيها مُتعارضه. يعني لو قدامك جُملتين فيهم إستعارات فرعيه تَسبِقهم مُقدمه (عباره تالته إفتتاحيه) بتقدِّم إستعاره أساسيه، فهم الجُمَل دي هايكون أسرع من لما تحاول تِفهم جُملتين معناهم حرفي لكن متناقض. خلينا نضرب أمثله.

لو قولتلك (1) الزمن زي الفلوس، (2) لو خلصت شغلك بدري تقدر تكسب وقت أكتر لحياتك الشخصيه، (3) لو إستثمرت وقتك كويس هاتكسب مقابل أكتر. هنا في عِباره مفتاحيه هي الإستعاره الأوليه “الزمن زي الفلوس”، العباره التانيه بتستخدم لغة المكسب والخساره، اللي هي كلمات بتستخدم مع الفلوس بس هنا في وصف الزمن، والتالته بتستخدم تعبير الإستثمار اللي هو لفظ مرتبط بالفلوس بردو. فهمك للجُمَل دي هايكون سريع جداً وأشبه بالبديهه، وهايحصل بلا مجهود. على الرغم إن لو ركزت في المعنى الحرفي ف هاتلاقي إن الزمن مش مرادف للفلوس، وإن اللغه هنا كلها مبنيه على الإستعاره، والإستعاره هاتخليك تتخطَّى مُشكلة عدم تطابق الفلوس والزمن، وهاتخليك تفهم الزمن في إطار تفكيرك عن الفلوس، وبالتالي هاتمرَّر كلمات زي مكسب وخساره وإستثمار وتوفير وإستقطاع في الكلام عن الزمن.

في حين إني لو قولتلك جملتين زي (1) الباب مفتوح، (2) الباب مقفول، هاتاخد وقت طويل لحد ما تقدر توصَل لمعنى لأنك هاتحاول تفهم الإتنين مع بعض. طريقة فهمك للجُملتين دول مفيهاش أي مفتاح يخليك تُقحِم الإستعاره في التفسير، وبالتالي انت محتاج طريقه توفَّق بيها كلمتين متضادتين بيوصفو نفس الشئ، إزاي الباب مفتوح ومقفول في نفس الوقت. وبالتالي اللي هاتضطر تعمله هنا هو حاجه من تلاته: (أ) ممكن تضطر تروح للإستعاره، ف تُقحم مثلاً إستعارة التعبير عن الفرصه بالباب، ف لما تكون قدامك فرصه انت مش متأكد من قدرتك على تحقيقها ممكن توصفها بباب مفتوح ومغلق في نفس الوقت، ممكن تمُر منه وممكن متقدرش. بس المُشكله هنا إنك بتُقحم شئ على النص هو لم يستدعيه. الحاجه التانيه هي إنك تقول إن كل جمله بتتكلم على باب مُختلف، وبالتالي يصِح فِهم الأولى عن باب أول مفتوح والتانيه عن باب تاني مُغلق، وهنا إنت إفترضت وجود بابين عشان تمرَّر التناقض. والتالته هي إنك تُقحِم زمن يخلي الباب مفتوح في وقتٍ ما ومُغلَق في وقتٍ ما، ولكن بردو هنا أقحمت شئ على النص وهو مش فيه.

طيب ليه الجُمَل التلاته الأولى كانو أسرع في الفهم بالرغم من مُغايرة الزمن والفلوس وإنهم مش شئ واحد ولا من طبيعه واحده؟ لأنك بشكل غير واعي بتفهم ماهية الأشياء المُجرَّده في ضوء الأشياء الماديه، ده شئ بتعمله طول الوقت من غير مجهود لأن معندكش طريقه تفهم بيها المُجرَّد غير في ضوء المادي. وبالتَّالي العبارات دي عندك repertoire من الأفكار بيخليها سهلة التفسير والتَّوفيق حتى لو على المُستوى الحرفي هي غير مُتَّسِقه. وده يوريك إزاي الإستعاره قد تكون أكثر إرتباطاً بوعيك في بعض الأحيان من الحَرف.

المثال ده غريب خصوصاً لما ييجي من باب التجريب، لأن الناس عندها تراتبيه في تفكيرها بخصوص إن الحرفي بييجي الأول وبعد كده المجازي، لكن الأمثله دي بتوريك إن في أعماق الوعي البشري في مفاهيم كتير مبنيه بشكل مجازي من غير ما يكون الشخص واعي أساساً لفكرة إنه “بيأوِّل” أو “بيستعير” عن شئ بشئ.

طب ده ممكن يكون مُهِم ليه؟ الموضوع ده ممكن يوريك إزاي المجاز بأنواعه هو واحد من أهم أدوات توفيق المُتناقضات، يعني بلغة داريدا “ميتافيزيقا”، بتستدعيها بشكل لا واعي أو واعي لما بتتحط قدام ما لا يُمكن فِهمه. وهنا الميتافيزيقا بديهيه جداً وأصيله جداً، ومُحاولة تفكيكها للحرفي هي اللي تبدو مُتكلِّفه وشاقَّه. يعني تخيل لو قولتلك تجنب ألفاظ الفلوس وأمثلتها الماديه وحاول تشرح لطفل مفهوم الزمن، هاتلاقي الموضوع شديد الصعوبه وغالباً هاتقول إن مفيش داعي لده أصلاً! هنا تبتدي تشوف إن المجاز أو الميتافيزيقا مش شئ سلبي، هو جُزء من وعيك، ولكن عليك بردو إنك تفهم إنك حبيس الجُزء ده، وفي مراحل مُعيَّنه هاضيَّق رؤيتك لأنه قاصر، وهو قاصر لأنه بيوصف شئ بإعتباره آخَر ف هو في الأول وفي الآخر بديل لا يخلو من عوار. الميتافيزيقا وتوفيق المُتناقض آداه ضروريه، ولكن لازم تكون واعي لخطورته ولكونه عدسات بتشوف من خلالها لمدى مُعيَّن لكنها بردو بتمنع عنك رؤية مدى تاني.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *