ما بين التاريخ والخيال وخَلق الواقِع
MA in Applied Linguistics and TESOL, Portsmouth University, United Kingdom. His current research areas are Critical Discourse Analysis, Gender Relations, Religious Literature, and Hermeneutics
[vc_row][vc_column][vc_column_text]
لما بنتعامل مع عمل أدبي بنفترض وجود فواصل واضحه بين أنواع النصوص الأدبيه وبنفترض إن الكاتب واعي للفواصل دي وبيراعيها طول الوقت. ف مثلاً بنفترض إن العمل الأدبي التاريخي بيسرد فقط الحقائق وإنه خالي تماماً من الأسطوره والبروباجاندا والقصه الشعبيه، ولما بنتعامل مع عمل خيالي fictional بنفترض إنه يخلو تماماً من الحقائق.
الواقِع هو إن الفواصل دي وهميه، إحنا اللي بنتصور وجودها لمجرَّد رغبتنا في تصنيف الأعمال لأنواع واضحه. لكن الواقِع هو إن الأعمال الأدبيه تقع كلها على spectrum ما بين الواِقع المُطلق والخيال المُطلق لكن مفيش أي عمل ينتمي للقطبين دول نهائي. بمعنى أصح مفيش عمل مهما نسب لنفسه التّاريخيّه هايكون خالي من الخيال، ومفيش عمل مهما إدعى لنفسه التحرُّر من التّاريخ والمُجتمع والواقِع هايقدر يغسل نفسُه من الحقائق والظروف الإجتماعيّه واللغه اللي بيُنتج فيها.
سنة ١٨٢٢ سافر Giacchino Rossini المؤلف الموسيقي الثلاثيني في الوقت ده لمدينة لفيينا، وهنا قابل بيتهوفن (اللي كان في سن ال ٥٢ ساعتها). قصة اللقاء الوحيد بين روسيني وبيتهوفن حكاها روسيني بنفسه مرتين، المره الأولى حكاها روسيني بعد كام سنه من موت بيتهوفن، وقال ساعتها إنه راح لبيت بيتهوفن وإن بيتهوفن إستقبله لكن معرفوش يتكلمو لإن بيتهوفن مكانش بيعرف يتكلم إيطالي. المره التانيه حكاها روسيني قبل ما يموت وقال فيها إن بيتهوفن إستقبل روسيني وقاله إنه لازم يستمر في عمله ويكمل في نفس الخط الموسيقي اللي عمله في Il Barbiere di Siviglia وإن بيتهوفن قال إن ده أعظم عمل عمله روسيني.
على الرغم إن روسيني بيحكي حدث من حياته الشخصيه نقدر نشوف إن مع الوقت روسيني غيّر الأحداث لما جه يحكيها في نهاية حياته وضاف عليها وصف يظهر إعجاب بيتهوفن بيه وتقديره ليه. هنا صعب تفترض إن كل اللي الشخص بيحكيه عن نفسه بالضروره حقيقي وخالي من الإختلاق.
في مثال لنوع أدبي من القصص إسمه autobiographical fiction، النوع ده ممكن يوضّح خطأ الفرضيات اللي عرضتها. في النّوع ده من الأدب الكاتب بيستغل تفاصيل من حياته الشخصيّه زي الأماكن والأشخاص والأحداث، لكن بيستغرق في حاله مُعيّنه خاصّه بالشخصيّه اللي الرّوايه بحيث إن كل التفاصيل الحقيقيّه اللي بيسردها تنسج شخصيّه خياليه، حتّى وإن تشابهت بدرجه كبيره جداً مع مُعطيات حياة الكاتب نفسه، لكنها تظل شخصيّه مُختلفه. النوع ده من الأدب متقدرش تسمّيه مُجرَّد autobiography ولا تقدر تسمّيه مُجرَّد خيال fiction.
في روايتين ظاهر فيهم جداً النّوع ده من الكتابه، الأولى هي رواية The Folded Leaf للكاتب الأمريكي William Maxwell. في الروايه دي الشخصيّه الأساسيّه، Lymie Peters، بيعيش في نفس المنطقه اللي عاش فيها الكاتب، وبيروح نفس المدرسه، وحياته في فترة المدرسه الثانويه بتكون مُتشابهه جداً، إلا إن قصة Lymie بتكمل في خط إكتئابي وحزين بيقول William Maxwell عنه إنه متحققش في حياته الشخصيه. من الطريف إن Maxwell في مُقابلات جمعتها Barbara Burkhardt وإتنشرت سنة 2012 تحت عنوان Conversations with William Maxwell بيقول إنه لما قرا روايته بعد كده كان بيواجه صعوبه شديده جداً في تحديد أنهي تفاصيل في الروايه كانت حقيقه وأنهي كانت من خياله. الجُمله دي إتقالت حرفياً ومش في أي سياق مجازي، المؤلف فعلاً بيستغرق في خليط من الحقائق والإبتداعات بدرجه ممكن خلال عقود تخلي التشابُك ده صعب الفصل فيه حتى بالنسبه للشخص اللي عاش المواقف دي بنفسه في حياته الخاصه.
الروايه التانيه اللي بتتسم بنفس الظاهره دي هي رواية To Kill a Mockingbird للكاتبه الأمريكيه Nelly Harper Lee. الروايه بتدور أحداثها في تلاتينات القرن العشرين في قريه صغيره في ولاية Alabama (نفس الولايه اللي عاشت فيها Nelly Harper Lee). الكاتبه وبطلة القصه متشابهين جداً في فترة الميلاد ووصفهم وهم صغيرين، ووصف العائلات مُتشابه وبعض الأسماء مُشتركه. في نفس الوقت Nelly Harper Lee كانت بترفض إنها تقول إن قصتها تعتبر قصه ذاتيه autobiographical، وحتى لما طلبو منها تكتب مقدمه لقصتها في الطبعه التانيه كتبت مقدمه عن إزاي المقدمات بتدمر القصص وبتمنع القارئ من فهمها بنفسه.
في مُخاطره كبيره جداً في إفتراض consistency أو إتساق مُطلق في مُحتوى أي نصّ، أو إن الكاتب عنده filter بيقدر يفصل بيه الواقع عن الخيال فينتج عمل منزوع الخيال أو منزوع الواقع. كل الفرضيات الكلاسيكيه عن تصنيفات النصوص بيتضح مع الزمن إنها أدوات قاصره لا تصلح إلا كمقدمات للمُبتدئين، لكن الباحث والقارئ الجيِّد بيقدر يشوف إزاي كُل عمل هو مُركَّب مُعقَّد جداً من الحقيقه والخيال، وده اللي بيخلي الأدب بديع ومُشوِّق.
الأدب -ولاحقاً في التاريخ السينما- مش ممكن يتفصل عن الأمثال parables والـ anecdotes. مثلاً، لما تقرا رواية Les Miserables أو تشوف الفيلم صعب تمنع نفسك تتأثر بالدور اللي لعبته Anne Hathaway. قدام الشخصيه دي من الصّعب تسأل نفسك سؤال التّاريخ. مفيش حد هايواجه شخصية بتُعاني ويسأل هل الشخصيّه دي تاريخيّه ولا لأ عشان أحدد هاتعاطف معاها ولا لأ. في النقطه دي تحديداً بيندرج الأدب القصصي كله تحت الـ parable genre، وبيتحول سؤال التاريخ لسؤال فرعي وأوقات غير مُفيد لأهداف الكاتب. ده مش معناه إن روايه زي رواية Callirhoe للكاتب اليوناني Chariton of Aphrodisias مثلاً مفيهاش معلومات قد تكون صحيحه تاريخيّاً، لكن Chariton كمؤلف بيكتب Romance (والكلمه هنا مقصود بيها نوع النصوص الأدبيّه اللي بتحكي قصة حب) مش هدفه يوصّل للقارئ معلومه تاريخيّه بقدر ما هو عايز يخلق حاله من التعاطُف بين القارئ وشخصيات الروايه Callirhoe و Chairias، وينبّه القارئ لخطر الغيره والعُنف على العلاقات الإنسانية.
المُشكله الكُبرى بتكون في النصوص اللي يُختلف فيها على غرض الكاتب. والمُقدمات هنا تكاد تحكُم تصنيف النص وبالتّالي تفسيره. يعني لو نصّ إتصنف Romance ده بيخلّي تركيز الكاتب على حاجه مُختلفه عن لو كان تصنيف النصّ ده مكتوب على إنه تأريخ لحياة شخص. الفحص التاريخي في الـ Romance مش هايغيّر تفسيرها، لإن التاريخ مش هو المحور أو الـ anchor اللي الكاتب بيبني عليه عمله الأدبي. لكن العمل الأدبي اللي غرضه التّأريخ لو تحوّل لعمل محتواه مجرد التعاطُف مع موضوع التأريخ ومعلوماته غير صالحه للفحص بأدوات المؤرّخ في ده يعتبر تعارُض مبُاشر مع النوع الأدبي اللي العمل بينتسب -أو بينسب نفسه- ليه.
مُحاولة تفسير أي نصّ هي مُنتج الغموض، لإن لو كان النص واضح مكانش هايبقا في إحتياج للمُفسِّر. كل منهجية تفسير بتحاول تعيد بناء سياق يخلي للنصّ معنى أوضح. المنهج التاريخي بيحاول يُعيد تكوين الظرف التّاريخي اللي إتشكِّل فيه النصّ، المنهج اللغوي بيحاول يعيد تكوين ال discourse اللي أنتج النصّ، والمنهج الظاهراتي بيحاول يعيد إنتاج وعي الكاتِب والقارئ. كُل الطرُّق تؤدِّي إلى الفرضيات وأغلبها إلى دوائر مُفرغه بين المناهج نفسها. هنا تيجي أهمية تصريح ما بعد الحداثه بعدم إمكانية إعادة تَخليق معنى النّص بشكل كامل، المَقصود هو إن المُفسِّر لا يمتلك إلا فرَضيَّات تكميليه يشوبها النَّقص لا مَحَاله. كل التأويلات خاطئة بالضّرورة ولكن ليست كل التأويلات مُتساوية في الخطأ. في تأويلات أسوأ وأكثر إفتراضيه من غيرها، وفي تأويلات بتحتكم لدليل قابل للفحص والمُراجعه وأخرى دليلها حصري ليها وغير مقبول عند المنهجيات الأخرى. لكن يظل في جانِب إفتراضي في كل تأويل بيحاول فيه المُفسِّر إنه يكمِّل نواقص كل ظاهره نصيَّه بما هو مُرجَّح من خلال مُراقبة الظواهر النصيَّه المُشابهه. تظلّ الاسئله الأخطر لأي مُفسِّر هي إيه المنهجيه المُناسبه للظاهره النصيَّه اللي تحت إيدك؟ إيه المنهجيه اللي تخليك تفهم النص اللي معاك بأقل قدر من الفرضيَّات وأقل قدر من الميتافيزيقا (لو هانعبَّر بلُغة جاك داريدا)؟ وإيه هو نوع genre النصّ اللي بتحاول تفسَّرُه؟ لو المُفسِّر أخطأ في واحد من الأسئله دي مجهوده ممكن يبعده أكتر وأكتر عن النصّ.
لو بصيت حواليك بتأنّي هاتلاقي إن كلّنا متأثرين بنصوص، سواء كانت النصوص دي مكتوبه أو شفاهيه، سواء كانت قديمه أو مُعاصره، سواء كانت مُقدّسه أو بشريّه. في فصل ضروري بين ظاهرتين phenomena مُختلفتين: النصّ و تأويل (تفسير) النصّ. كل نصّ له مجموعة تأويلات، واللي بيوصل لوعيك هو التّأويلات مش النصّ نفسه. يعني فِهمك الخاطئ لنصّ لا يعني خطأ النصّ، ولكن خطأ معلومة النصّ بالضّروره هايوصّلك تفسير خاطئ. ثانياً، كل تفسير هو بالضّروره تفسير ينطوي على مجموعة فرضيّات أوليّه مش من داخل النصّ، زي فرضية النوع الأدبي genre، وفرضيّة السياق الزمني/الإجتماعي، وفرضيّات لغويّه تانيه خاصّه لمدى دلالة الكلمات والإستعارات metaphors وأنواعها في النصّ.
الموضوع مش بيقف عند سؤال التّفسير لإن التفسير ده بيقتحم المُجتمع والهويّه الفرديّه والجمعيّه، والخطاب اللي كنت بتتعامل معاه على ورق أو بتسمعه بيتحوِّل لخطابك الشخصي وبيشكِّل وعيك والمنطق اللي بتتعامل بيه مع اللي حواليك. مش قادر أتجاوز عبارة داريدا “لا شئ خارِج الخطاب (النصّ)” لما بفكَّر في آلية صياغة الإنسان لموقعه وواقعه اليومي والإجتماعي. الخِطاب فعلاً مُتداخِل ومُتشابك مع الهويّه، وكل شئ بيحصلك exposure عليه بيشكِّل جزء منّك حتى لو تلقّيته بالرَّفض.
مع إدراك حجم التأثير المُرعب ده للنصّ بنوعيه المكتوب والمقروء هاتقدر تُدرك قوِّة النصّ ومدى قدرته على تشكيل/تخليق الواقِع والأفراد. ومن هنا ييجي سؤال التّحرير: إزاي تقدر تحرر نصّ من تفسيراته المُستقرَّه اللي ممكن تكون قادره على تخريب المُجتمع والأفراد؟ وإزاي تقدر تحرَّر الأفراد من مُقدمات تفسيريه مغلوطه وتفتح أبواب لقراءات جديده أصلَح منطقيّاً وإجتماعياً؟
العمليّه دي -عمليّة التَّحرير- مش هدفها تقويض/تدمير النّصوص ولكن هدفها الوصول لقراءات أكثر رحابه وتقبُّلاً للآخر ولمعطيات الواقِع وتحرير النصّ من سُلطة المجموعات اللي بتستخدمه لمُمارسة السُلطه والسيطره على سامعيهم وعلى الجماعات الأُخرى المُغايره فكرياً. من الجدير بالذكر إن تطوير التَّفسير ده موضوع inevitable، هايحصل هايحصل، السؤال فقط هو هل تطوُّر التَّفسير والقراءات هايكون تجاه قراءات أكثر آدميّه ولا أكثر سُلطويّه وإنغلاقاً. لكن لو مُتصوُّر إن في قراءه فوق زمنيّه ولا تتفاعل تماماً مع مُعطيات التّاريخ تبقا مش مُدرك طبيعة النصوص وبتُفقدها جزء مهم من طبيعتها وهو الديناميكيه.
#johns_literary_bites
[/vc_column_text][/vc_column][/vc_row]