مُقدمات في منهجيات التفسير (2): لُغز مقتل خضر كراويته

في ليلة مَطيرة كان أخينا المُفسِّر النَّابه بيقرا كتاب قديم يبدو من مُحتواه إنه بيحكي قصه يُفترض إنها حصلت في الماضي. وكانت القصه بتقول:
[بينما يعقوب قمر الدين دبيازه سَائراً إلتقى خضر كراويته في الطَّريق، فحيَّاه قائلاً “مُبارك يوم الحَصَاد يا خضر، أعاننا وأعانك الله” فردَّ خضر التحايا وإستكمل طريقه. وبينما كان خضر كراويته يعبُر الجسر المؤدِّي إلى قريته سقط الجسر ومات خضر كراويته غرقاً في النهر.]
__________
قرر أخينا المُفسِّر النَّابه إنه يفسَّر الموقف على إنه من كرامات يعقوب قمر الدين دبيازه إستناداً على إن تحيَّته لخضر كراويته بعبارة “مُبارك يوم الحصاد يا خضر” مقصود بيها إن ده يوم حصاد روح خضر كراويته. وبناءاً عليه إفترض إن يعقوب قمر الدين دبيازه أكيد كان راجل صالح.
__________
تاني يوم وهو بيتكلم مع زميله المُفسِّر النابِغ وراله النصّ وسأله عن رأيه، ف النابِغ قال إن الجُمله مش مقصود بيها إن يعقوب قمر الدين دبيازه عارف إن خضر كراويته هايموت، ولكن يقصد إن فعلاً اليوم ده كان يوم الحصاد وإن كل واحد فيهم كان رايح الأرض عشان يشتغل واليوم ده عادة بيكون مرهق ف عشان كده قاله “أعاننا وأعانك الله”، وبدأ بأعاننا عشان الكلام عن كل اللي رايحين الحصاد وده ينفي إن العباره عن خضر كراويته تحديداً. وده معناه إن مفيش علاقه بين تحية يعقوب وموت خضر.
__________
وهم واقفين بيتناقشو وبعد ما الموضوع طوِّل، جه صاحبهم التالت المُفسِّر الواعد، وبعد ما سمع وجهات نظرهم قال إن الرأيين غلط. لا يعقوب قمر الدين دبيازه ولي من أولياء الله، ولا التحيه اللي قالها كانت مجرد تحيه عاديه. ف سأله النابه والنابغ عن تفسيره ف قال إن الرساله كانت فعلاً مقصود بيها إن حاجه سيئه هاتحصل لخضر وإن يعقوب كان عارف اللي هايحصل، وقال “أعاننا الله” لإنه كان يقصد نفسه هو وخالد كشميري اللي كان متفق معاه عشان يقتلو خضر كراويته وإن القصه دي بتحكي جريمة قتل. والدليل هنا إن القصه محكيه من الضمير التالت، بتتكلم عن يعقوب وخضر بالضمير “هو”، وبالتالي اللي حكاها شخص تالت كان عارف اللي حصل بينهم واللي حصل لخضر وهو راجِع، وكتب التاريخ بتقول إن كان في شخص تالت إسمه خالد كشميري إتُهم بجريمة قتل وأعدموه وغالباً هو اللي قتل خضر كراويته والقصه اللي بيحاولو يفسروها دي جزء من شهادته لما كانو بيحاكموه.
__________
كل واحد من التلاته دول بيمثِّل إشكاليه تفسيريه. الأول إستخدم قراءه ميتافيزيقيه [إن يعقوب قمر الدين دبيازه بيعرف المُستقبل وولي وعنده كرامات] عشان يفسَّر النص (اللي إعتبره نص ديني عن كرامات ولي) إستناداً على تأويل معيَّن لكلمة الحصاد، ولأن التاريخ مفيهوش مساحه للمجهول الميتافيزيقي إعترض عليه التاني وحاول يلاقي تفسير من داخل الطبيعه.
__________
التاني إرتكب خطأ مُختلف، بالرغم إنه تجنب الطرح الميتافيزيقي اللي غير قابل للإثبات، إلا إنه مقدمش سبب يخلي القصه دي تستاهل تنتشر. يعني هل القصه دي مُجرَّد مثل؟ طب داخلياً إيه العبره منه؟ طب هل كانت معلومه تاريخيَّه؟ طب مين الشخص التالت اللي نقلها؟ خصوصاً إن النص بيتكلم عن الإتنين بال third person. يبدو إن النص داخلياً مش واضح بدرجه كافيه تخليه يتفسَّر من خلال معطيات اللغه بس. وبالتّالي بالرغم إن تفسيره داخلياً مقبول ومفيهوش إسقاطات خارجيَّه إلا إنه ناقص ومبيفسرش الظاهره كلها.
__________
التالت حاول يلتجئ للتَّاريخ عشان يفسَّر الظاهره، وربط كلمة “أعاننا” بشخص تالت -خالد كشميري- في حين إن ممكن الكلمه يكون مقصود بيها مجرَّد العاملين بالزراعه ورايحين الحصاد. ولكن التالت حاول يفسر وجود القصه من خلال وضعها في سياق تاريخي وشاف إن النص ده نص قانوني وجُزء من شهاده في محكمه عن طريقة موت خضر كراويته، وراح يدور في تاريخ القريه وعرف إن في واحد اُعدم بتهمة قتل، وقرر -بتسرُّع- يربط بينه وبين يعقوب قمر الدين دبيازه وخضر كراويته، في حين إن خالد كشميري ممكن يكون قتل أي حد تاني وأُعدم، وممكن تكون المعلومه نفسها غلط أساساً. هنا المُفسِّر بيحاول يقدِّم المُحتمل تاريخيَّاً بإعتباره مُرجَّح تاريخيَّاً. وارد يكون خالد كشميري قتل حد فعلاً، ووارد يكون المقتول ده خضر كراويته، ولكن هل في شئ يربط المعطى التاريخي بتاع إن خالد كشميري قتل واحد بإن الواحد ده هو نفس الشخص اللي في القصه اللي المُفسر الأول كان بيحاول يفسرها أدبياً؟ لأ مفيش!
__________
السؤال هنا هل لو النص كان مفهوم كنا إحتاجنا أي واحد من المُفسِّرين التلاته؟ طب تفسير مين فيهم صح؟ أو السؤال الأفضل أنهي فيهم أسوأ تفسير؟ وليه؟ هل في تفسير منهم كامل؟ هل تقدر تطرح تفسير أحسن من تفسيرات التلاته؟ هل بالضروره في تفسير كامل لكل سؤال أدبي تاريخي؟ وهل بسبب عدم وجود تفسير كافي في بعض الحالات لازم نقبل تفسيرات يشوبها النقص والعوار كتفاسير مُسلَّم بيها؟ فكر في الأسئله ولو حبيت تشارك بقراءاتك للموضوع أو منهجيات التلاته في الكومنتات إتفضل.
__________

“يبدو لي من الجَائِز وجود خطأ أصيل في كل التَّفسير، الخَطأ الذي بدونه لا يكُن التفسير تَفسيراً بَعد!” (توماس إيليوت)
“بالرغمِ من أن التَّفسيرات لا مُتناهية، لا يعني هذا أن جَميعَ التَّفسيرات مُتساوية أو أنَّه لا يوجَد منها ما لا تَشوبه العِلَّة أو الخَطَأ.” (برايتون بولكا)

Similar Posts