مقدمات في منهجيات التفسير: (1) صوت الكاتب أم القارئ أم النص؟

يبدو لي من الجَائِز وجود خطأ أصيل في كل التَّفسير، الخَطأ الذي بدونه لا يكُن التفسير تَفسيراً بَعد!” (توماس إيليوت) [1]

“بالرغمِ من أن التَّفسير لا مُتناهٍ، لا يعني هذا أن جَميعَ التَّفسيرات مُتساوية أو أنَّه لا يوجَد منها ما هو غير مُناسِبٍ أو خاطيء.” (برايتون بولكا) [2]

كما ذكرنا في المقال السَّابِق (النَصّ القَتَّال: التَّأويل بين المَجاز والتَّعطيل[3]) فالتأويل hermeneutics يستمِد إسمه من إسم الإله هيرمس، رسول الآلهة الذي ينقل ويُفسِّر كلمات الآلهة للبشر. هيرمس هو الإله الذي يملأ مساحة المجهول بين البشر والآلهة، “الذي يختَرِقُ ما بين المرئي والمحجوب، بين اليقظة والمنام، وبين اللا وَعي … وهو مُرشد الأرواح إلى العالم السُّفليّ[4]”. وعليه، يُمكن أن يُفهم التأويل بإعتبارهِ عبوراً أو تجاوزاً لهوَّة معرفيَّة ما بين القارئ والكاتِب من خلالِ النصّ. عبور تِلك الهوَّة المعرفيَّة يتخلله عددٌ هائل من الصعوبات والفرضيَّات، فتِلك العملية -عملية الفهم- التي تراها بكونها حدساً وبديهةً بسيطة هي عملية مُعقَّدة للغاية لا تخلو من الفرضيَّات المُسبقة والعديد من الجعبات اللغوية lexical repertoires والتفسيريَّة interpretative repertoires والخطابية discursive. في تِلك السلسلة سَنمُر على أطروحات ومنهجيات التَّفسير وإشكاليَّاتها ومناطِق قوَّتها.

سُؤال التَّفسير هو سؤال المَعنى، ولكن أي معنى؟ يوجَد ثلاثة مُستويات للمعنى في أيّ عَملية تَأويل: معنى الكاتِب ومعنى القارئ ومعنى النصّ، أو قُل ثلاثة أصوات ليست بالضَّرورة مُتطابقة. حينَ طُلِبَ من الكاتبة نيلي هاربر ليي أن تكتُبَ مُقدَّمة لروايتها الأشهر To Kill A Mockingbird سنة 1995 كتبت مُقدِّمة تطلُب فيها أن يُعفى القارئ من عبء المُقدِّمات، وقالت “كقارئة، أنا أكره المُقدِّمات … المُقدِّمات تُثبِّط المُتعة، تقتل سعادة التَّرقُّب، وتُحبط الشَّغَف[5]”. بالنِّسبة لها لا يجِب أن يتبَع القارئ خُطى رسمها الكاتِب بدِّقَّة، بل للقارئ أن يرى النصَّ في ضوءِ خبراتهِ الخاصَّة وأن يعِش مُتعة المُغامرة والتَّرقُّب والشَّغَف بحسبِ ما يرى في النصِّ. يُمكن أن يُفهم هذا في سياق كتابة الرِّواية، فرواية مصحوبة ب “كتالوج” للقراءة تتحوَّل إلى درسٍ أخلاقيٍّ ثقيل ورتيب.

يتردَّد نفس الصدى في كتابات الامريكية سوزان سونتاج وتحديداً في مقالٍ بعنوان “ضدُّ التَّأويلِ[6]”، بدأته بمقولة من لقاءٍ لويليام دي كونيج: “المُحتوى هو لمحَة من شئ، لقاء كوَمضَة. المُحتوى ضَيِّقٌ ضَيِّقٌ للغاية”، وأخرى تُناقِض الأولى لأوسكار وايلد “فقط السطحيَّون لا يحكمون بالظَّاهِر. سِرُّ العَالم هو المَرئي وليس ما يَخفى”. تِلك العبارتين تُلخِّصان الصِّراع الذي نحنُ بصدد تقديمه، هل يكمُن المعنى فيما يظهَر من النَّصِّ، أم في تخطِّي ما سمَّاه دي كونيج بالمُحتوى الضَّيِّق تجاه “لقاء” أكثر رحابة يوجَد ما وراء النَّص، ما وراء المرئي؟

تسرِد سونتاج تاريخ صعود التَّفسير المجازي “القديم” بإعتباره رد فعل لمُتغيِّراتِ الواقِع التي فَرَضها تطوُّرِ الفكر على الأساطير القديمة. فحين نَظَّر الرواقيًّون لضرورة أخلاقيًّة الآلهة لم يعُد ظاهِرَ نصِّ الأسطورة مَقبولاً لديهم، فأوَّلوا الأفعال الشَّائنة المَنسوبة للآلهة بكونها رَمزاً يتوافَق مع الأخلاقِ المُطلقة التي إفترضوها في الآلهة. بهذا تصِف سونتاج التَّفسير المجازي بإعتبارهِ إستراتيجية راديكالية للحفاظِ على النّصوص القديمة التي لا يُقبَل ظاهرها والتي لا يُمكن أن تُرفَض قيمتها من خلالِ تغيير معنى المكتوبِ من دونِ المساس بحرفِ المكتوب. تكمُن الإستراتيجية في إدعاء وجود ما يتخطَّى ظاهِر النصّ ودعوة القارى لتركِ مفروض الظَاهِر لصالحِ مقبول المعنى. أما التَّفسير المُعاصِر فتراُه نقباً وتدميراً يسعى لتخطِّي العمل الفنِّي ذاته تجاه فحص مصادره وتكوينه وترى في ذلك فُقدانا لقيمة العمل نفسه.

تُقاوم سونتاج -تماماً مثلما فعلت نيلي هاربر ليي- فكرة إستحضار العمل الفنِّي لتفسيره. فتقول “عادَة إستحضار أعمال الأدب لتفسيرها هي التي تُبقي على الشعور السَّطحي بأنَّه يوجَد مُحتوى لكلِ عملٍ فنِّي”. تُحذِّر سونتاج أن تِلك القراءة خاصَّة بالفنِّ ولا يُمكن إطلاقها على التَّفسير بشكل عام، فسونتاج بالأصل فيلسوفة وأديبة. لذا فهي تُدرك تماماً أن النوع الأدبي genre يفرضُ ضوابطه. فما يصلحُ للشِّعرِ لا يُعمَّمُ على النَّثرِ بأنواعه. تظَل رؤية سونتاج رؤية وجيهة إذا ما بقيَت في سياقِ الفنِّ، ولكن هل تُكتَب كلّ النّصوص لكي لا تُفسَّر بدِّقَّة ولكي لا يُستخرَج منها معانٍ واضحة ثابتة وأحياناً عقيدية وقانونية؟

على الجانِب الآخَر يُميِّز إيريك دونالد هيرش في كتابه Validity In Interpretation بين “المعنى” meaning و “القيمة” significance. فالأوَّل هو ما قصده الكاتِب تحديداً والثاني هو ما يُمكن للقارئ أن يرى صداه في واقعهِ الخاص، في زمانه ومكانهِ الجديدين[7]. بحسبِ هيرش، مَعنى الكاتِب مُتاحٌ جُزئياً للقارئ، ولكن لا يُمكن أن يعرِفَ القارئ “جميع” أو “كل” ما قَصَدَ الكاتِب. رُبَّما هذا تحديداً ما قصدة توماس إيليوت في القول المذكور على رأسِ المقال، بما أن كُلّ تفسير هو مُحاولة لإعادة بناء مَعنى النصّ ولأن المَعنى فُقِدَ بموت الكاتِب فكل تفسير مدفوعٌ بالجهالة ومحمول على العديد من الفرضيَّات وينتفي فيهِ المُقارنة بما كان في وعيِ الكاتِب، لذا فكل تفسير هو بالضَّرورة ناقِص، وإن لَم يكُن لما دُعي حينها “تفسيراً” بل صار “حقيقة”. هُنا يُذكِّرنا نيشته بأنَّه لا تُجَد حقائِق نهائية، فقط توجَد تأويلات أو قراءات.

يقول هيرش “لا يُمكننا أن نعلم كل المعنى الذي دار في وعي الكاتب حين كتب النصّ، فنحنُ نستنتجُ من نوعينِ مألوفين من الدليل. وقتما أتكلم فأنا أشيرُ لمعانيٍ خارجَ موضوعَ خطابي discourse. وأنا أعلَمُ تماماً أنَّ تِلك المعاني التي أنقلها من خلال الخطاب أكثر محدودية من تِلك المعاني التي أفكِّرُ فيها. لا يُمكنني مثلاً أن أنقل بالكلمات جميعِ الأشياء المرئيةِ المحيطةِ بي على الرَّغمِ من كونِها معانِ أو بكونها قابلة للإدراك objects of perception. لذلك فعلى الأرجح بالكليَّة أنَّه لا نصّ يُمكنه أن ينقِلَ جميع المعاني التي كانت في ذهنِ الكاتِب حين كتب[8].” بهذا يفصل هيرش بين ما أراد الكاتِب أن يقوله، وما بين ما سَمَحت اللغة والخِطاب بالتعبير عنه، وبين ما يُمكن للقارئ أن يفهمه القارئ من ما سَمَحت لغة وخطاب discourse الكاتِب بالتعبير عنه. حتَّى إن إدَّعى مُفسِّر ما أنَّ تفسيره مُطلق الموضوعيًّة ومتوافقٌ تماماً مع مُحتوى النصّ، كيف لهذا المُفسِّر أن يَتحقَّق من تَطابُقِ النصّ مع فِكرِ الكاتِب أو أنَّ لُغة الكاتِب وخِطَابِه كَانا قَادِرين على إحتِواء كُلِّ ما عناه الكاتِب أو على حَصرِجَميعِ ما أدركه؟

رُبَّما تظُن أن الحل هو في سُلطان الكاتِب على النصّ، وأن الضَّامِن الوحيد لحفظِ معنى النصّ هو وجود الكاتِب وإصلاحه لأيّ خلل تفسيريّ يشوب فهمَ النصّ. رُبَّما الحَلّ في التقاليد، في تَسَلسُلِ السَّردِ والتَّفسير! إقرا معي القصة التّالية لعلَّها تُجيبُ سؤالك.

ما بين يومي 22 و 23 من شهر أغسطس سنة 1914، وفي خِضم الحرب العالمية الأولى، حاصَر الجيش الألمانيّ الجيش الفرنسي في مدينة مون Mons. وأرسلت القوات البريطانية كتيبتين لرد الجيش الألماني لحين إنسحاب الحليف الفرنسي، وبالفعل تمكنت الكتائب البريطانية من تحقيق الهدف وردَّوا الألمان حتى اليوم التَّالي وحتى إنسحاب الفرنسيين.

خمسة أيام بعد معركة مون نشر الكاتِب الويلزي أرثر ماكِن قصة قصيرة بعنوان The Bowmen أو “رُماة السهام” في جريدة The Evening News. قصة ماكِن كانت مُستوحاة من أحداث معركة مون إذ كان ماكِن مُتابعاً لأخبارِ الحربِ ومُستجدَّاتها، بل ونشر عدَّة مقالات عن المعركة خلالِ نفسِ الإسبوع. ولكن على عكسِ مقالاتهِ عن معركة مون كانت قصة ماكِن خيالية تروي صلاة أحد الجنود طلباً لمعونة القديس جورج (مارجرجس في الأوساط العربية) وإستجابة القديس جورج له وإرساله جنداً رُماة أسهُم لدفعِ الجيش الألماني وتدميرهم الكامل للكتيبة. النوع الأدبي الذي أراده ماكِن لقصَّتهِ هو الوثيقة المُزيَّفة false document إذ تبدو القصَّة كوثيقة مُستمدَّة من شاهد أو شهود عيان يسردون الأحداث الخيالية وكانَّهم رأوها رؤيا العين، ويمتزج فيها التّاريخ بالأسطورة.

في العدد نفسه الذي نشر فيه ماكِن قصَّته القصيرة، نشر كاتِب آخَر قصَّة بعنوان “قصّتنا القصيرة” Our Short Story. لسبب ما لم يعلمه ماكِن حينها بدأ يستقبل كما كبيراً من الرسائل التي طالبته بتقديم مصادره التَّاريخية للقصة التي كتبها. وأجاب ماكِن حينها بأنَّه لا توجَد مصادر لأن القصة ليست تاريخاً بالأساس وأوضَح أن نوعها الأدبي هو الخيال الممزوج ببعض الحقيقة. بعد شهرين أو ثلاثة تواصَل أحد القائمين على مجلة كنسيَّة مع ماكِن طالباً إذنه في نشر قصَّته في أحد مطبوعات الكنيسة، وأبدى ماكِن ترحيباً. ولكن طلبَ منه القس أن يُقدِّمَ قصَّته سارداً فيها مصادره ومراجعه التي إستقى منها الحدث، وهو ما أجاب عنه ماكِن بأنَّه لا تُوجَد مصادِر، فالقصَّة خياليَّة بالأساس، وأخبر القس بأنَّه لا يُمانِع نشر القصَّة بدون مصادِر. اصرَّ القس على المصادر، فلابُد لكل قصَّة حقيقيَّة من مصادر وشهود!

حينما أُرهِقَ ماكِن من كثرة ما شدَّد على تاريخيَّة القصَّة، قرر نشرها في كتاب بعنوان “رماة السهام وخُرافات الحربِ الأخرى”، لا يوجَد ما هو أوضَح، أليس كذلك؟ لا، إكتشف ماكِن لاحقاً أن القصة دخلَت للأوساط الكنسيَّة وبدأ تداولها بإعتبارها مُعجزة حقيقيَّة لم يُعد من المُمكن السيطرة عليها، تماماً كمن رمى كرة ثلج وصارت تتزايد وتتضخَّم حتى لم يُعد هو نفسه قادراً على إيقافها. في نفسِ العام، سنة 1915، نشرت مجلة Spiritualist البريطانية أخباراً عن رؤى الجنود في معركة مون، وروَت بالتفصيل شهادات الجنود الذين رأوا جندَ الملائكة يصدُّونَ كتائِب الألمان، وعَزَوا إنتصار البريطانيين قليلي العدد على الألمان المتفوقين عددياً بضرباتِ الملائكة. وبدأ الناس يتشاركون تفاصيل المعركة بما فيها أشكال الملائكة وآثار إصابات سهامهم على جثث الألمان.

حينما تفاقمت الأخبار إضطر الألمان لمُحاولة تفسير ما حدث في معركة مون، كيف إستطاع البريطانيين قليلي العدد صَدَّهم؟ نَشَر الألماني Friedrich Herzenwirth مذكراته سنة 1930 وفيها قال أن الألمان حاولوا تَرهِيبَ البريطانيين والفرنسيين عن طريقِ أنعكاسات الأنوار على السُحُبِ، ولكن فشلت الخطَّة حين ظنَّها البريطانيين والفرنسيين مُعجزة ساعدتهم على القتالِ وإنتصروا. بعد التحقيق، لم يوجَد أي أثر لجنديّ ألماني بإسم Herzenwirth في سجلَّاتِ الحرب، ونَفَت ألمانيا وجود تِلك الشخصية بالأساس كما نفت أيضاً وجود تِلك الخطة في مُخططات الجيش الألماني، كما لم تتوفَّر آليات تسمح بتطبيق فكرة كهذه سنة 1914 ولا منطق في الفكرة بالأساس. يبدو أن أحدهم مازال مهتماً بما حدث في معركة مون ومازال يُحاول تفسيره.

سنة 2001، وبعد ما يُقارب القرن من معركة مون، نشرت جريدة The Sunday Times البريطانية مُذكِّرات وصُوَر تؤكِّد ظهور الملائكة في معركة مون. نُسِبَت تِلك الأدلة لجنديّ بريطاني يُدعى ويليام دويدج، وكالعادة تزايدت الإشاعات حتَّى طالت الممثل الشهر مالرون براندو الذي نُسب له أنَّه أراد شراء الوثائق لتحويلها إلى فيلم. وتسابقت الصحف في نشر وإعادة نشر أخبار معركة مون وملائكتها حملة السهام.

يبدو إنه في سنة 1914 إختلطت على القُرَّاء الأمر ما بين القصة الخيالية التي نشرها ماكِن وتِلك القصة الواقعية المُعنونة Our Short Story، وتشابَكت الأمور أكثر إذ كان ماكِن قد نشر عدَّة مقالات توثِّق الحرب وتطورّاتها قبل نشر القصة الخيالية. حاوَل ماكِن بكل الطُّرق أن يضبُط قراءة قصًّته ولكن إذ لاقى التَّفسير الخاطئ إستحسان الجموع الكاثوليكية إنتشرت القصَّة بتفسيرها ونوعها genre الخاطئين ولم يعُد للكاتِب سُلطة التَّفسير. رُبَّما أجابَت هذا القصة سؤالك! ففي حياة الكاتِب نفسه قد لا يَمتلِك ضَبط المعاني أو النوع الأدبي لما كتبه. هذا ما أدركه تيرانيوس روفينوس في القرن الرابع أو الخامس حين إلتجأ للتهديد والوعيد لكل من يُغيِّر كلمات ترجمته لكتابات أوريجينوس الإسكندري فكتب في مُقدِّمة ترجمته: “بالحق، وفي محضر الله الآب والإبن والروح القدس، أطلب وأتوسَّل لكن من ينسخ هذا الكتُب أو يقرأها بإيمانه بالملكوت الآتي وبسر القيامة من الأموات وبالنار الأبدية المُعدَّة للشيطان وملائكته … ألّا يُضيِف لما هو مكتوب وألّا يحذِفَ منه وألّا يُدخل عليه ما ليس منه وألّا يُغيِّره.”[9]

رفضت سونتاج إحكام تفسير الفن، ورفضت هاربر لي توجيه القارئ إلى معناها الخاص، وفصل هيرش بين مُراد الكاتِب وبين ما تُتيحه اللغة وما تحجبه من فِكرِ ووعيِ الكاتِب. أين الخَلاص إذاً؟

يَرى هيرش أن تَحريرِ النصِّ من أيَّة ضَوابط هو تَعدٍّ على صوتِ وملكية الكاتِب [10]وعلى اللغة كوسيلة تواصل ذات مَغزى ورسالة، بينما الإفراط في يقينيَّة إدراك فِكرِ الكاتِب جاهَل لحدود إمكانيات اللغة وضوابِط الخِطاب. الحَل إذاً في دراسة مَعنى النصّ نفسه textual meaning وما يُمكن أن يقوله من خلال تكوينه ومُفرداته، على أن يكون أقصى ما يُمكن تحقيقه نسبياً هو المعنى الذي أتيحَ في النَصَّ لا المعنى الذي جَال في عقلِ الكَاتِب. يرى تيري إيجلتون أن الإشكالية الكُبرى في أطروحة هيرش هي أن النّصوص لا تحتوي على ما يُجبر القارئ على قرائتها بحسبِ قصدِ كاتبها، ولكن لا يخلو هذا النقد من غرابه، فالكتابة فعلٍ غائي، له هدف ورسالة، والإنصاتِ -بحسب ما تُتيحُ اللغة والخِطاب- هو دورُ القارئِ والمُستمع. ما قيمة القانون إن لَم يكُن للقوانين مَعنىً أصيل يجِب على المُواطِن إتِّباعه؟ ليسَت كل النّصوص قَوانيناً، ولكن يَحِق لكل كَاتِب أن يُفهَم بقدرٍ من الإنصاف وللقارئ بعدها أن يتَّفِق أو يَختلِف مع الكاتِب والنصّ. لا سُلطة للنصِّ وللكاتِب بُهما يُجبَر القارئ على التَصديقِ والتَّسليمِ بمُحتوى النصّ ولكن لكل يقبَل القارئ أو يرفُض ما يقرأ عليه أن يكون موضوعياً قَدر الإمكان في فهمِ ما يقرأ.

سنة 1968 صرَّح رولاند بارت بموتِ الكاتِب، جاء هذا التصريح في معرَض نَقد اليقينية البنيوية التي إفترضت إمكانية إعادة بناء قَصد الكاتِب من خلال تقَصِّي الأبعاد الإجتماعية والتاريخيّة والأخلاقية والنفسية للكاتِب، وبالتّالي تؤسس للكاتِب كسُلطة مُهيمنة على النصّ[11]. مَوت الكاتِب في ضوء هذا السِّياق هو إستحالة إعادة بناء وعي الكاتِب ومقصده من خلال تتبُّعِ بعض الأبنية السابِق ذكرها. وعليه، فالقارئ لا يتلاقي مع الكاتِب بل مع النصّ، الكاتِب مُستتر ومجهولٌ للأبَد، ما يُمكن أن يُعاد بناءه ببعض الموضوعيَّة هو تِلك الآليات اللغوية التي إستخدمها الكاتِب في النصّ، وهذا ما يتقصَّاه مجال تحليل الخطاب Discourse Analysis من خلال مُراقبة وإحصاء الأنماط patterns التي تَظهَر في إسلوب الكَاتِب. في المقال القادم نتناول علاقة الهرمنيوطيقا بمنهجيات بتحليل الخطاب وأنواع الدليل الكمي Quantitative والنوعيQualitative.

[1] Menand, L. (2007, p.93). Discovering Modernism: TS Eliot and his context. Oxford University Press.

[2] Polka, B. (1986, p. 862). The Supremacy of God and the Rule of Law in the Canadian Charter of Rights and Freedoms: A Theologico-Political Analysis. McGill LJ, 32.

[3] https://bit.ly/3tlnyUG

[4] عادل مصطفى (2007، ص25)، فهم الفهم: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، رؤية للنشر والتوزيع.

[5] https://www.nytimes.com/1995/08/23/books/book-notes-a-new-foreword-that-isn-t.html

[6] Sontag, S. (2001). Against interpretation: And other essays. Macmillan.

https://sites.ualberta.ca/~dmiall/LiteraryReading/Readings/Sontag%20Against%20Interpretation.pdf

[7] Eagleton, T. (1996, p.58). Literary Theory: An Introduction. Minneapolis: University of Minnesota Press.

[8] Hirsch, E. D. (1967, p.17). Validity in interpretation (Vol. 260). Yale University Press.

[9] Roberts, A., Donaldson, J., & Coxe, A. C. (1886, p.420). The Ante-Nicene Fathers: translations of the writings of the Fathers down to AD 325 (Vol. 4). Christian Literature Company.

[10] Eagleton, T. (1996, p.60). Literary Theory: An Introduction. Minneapolis: University of Minnesota Press.

[11] Martínez-Ávila, D., Smiraglia, R., Lee, H. L., & Fox, M. (2015). What is an author now? Discourse analysis applied to the idea of an author. Journal of Documentation.

Similar Posts