النقل الشفاهي – هل هو دقيق؟

في ورقه بحثيه شقيه عنوانها Early Buddhist Oral Transmission and the Problem of Accurate Source Monitoring بتتكلم عن مُقارنه للتقاليد الشفويه البوذيه وبتحاول تستنتج منها كيفية إنتقال النصوص بشكل شفوي على مدى قرون وإزاي بيحصلها توسُّع expansion وتطوُّر embellishment. في الورقه دي بيدرس الباحث Bhikkhu Anālayo نصّين بعنوان Aṭṭhaka-vagga و Ūdāda، وبيحاول يحلل إزاي في نصوص تعليقيّه وشروحات دخلت جوا متن النصوص دي مع الزمن. المهم في الدراسه دي إنها بتدرس إنتقال النصوص وسط جماعات مُحافظه ونظاميّه جداً، ف إن كانت الجماعات النظاميّه دي بيحصل في النصوص بتاعتها كده ف ما بالك بالنصوص اللي إتنقلت بشكل حُر على مساحات جُغرافيه أوسع.

في بداية الورقه بيربط Anālayo بين ممارسة اليقظة الذهنية Mindfulness (لو حد عنده ترجمه أفضل يكتبهالي) وعلاقته بالذاكرة الخاطئة false memory وبيقول إن الشخص وهو بيحاول يفتكر الماضي بيتأثر بمواقف لاحقه وده بيخلي عقله يختلق تفاصيل محصلتش في الماضي أو حصلت لاحقاً ولكنه بينسبها للماضي.

ال Ūdāna هي أقوال موحى بها بحسب الفكر البوذي، بتكون في هيئة نثر، وفي الدراسه دي بيقارن بين نسختين منها. نسخه موجوده بلغه إسمها Pāli والنسخه التانيه منتشره بالصيني والسانسكريتي ولغة التيبت، واللي مفيش فيهم سرد نثري على عكس نسخة Pāli ولكن فيه نصوص وعليها تعليقات وشروحات (بدل السرد). في حوالي ٨٠ نص من ال Ūdāna بيتشابه ٣ بس في السرد النثري مع المُقابل الصيني لنفس النص.

بيقول Anālayo إن النمط الملحوظ هو إن في خلال النقل البوذي الشفوي المُبكِّر بتدخل نصوص نثريه لنصوص ال Ūdāna عشان شرحها وتوضحها، وبيقتبس باحث تاني إسمه Lamotte بيقول إن كمان السرد هو دخيل على الأقوال وإنه دخل على الأقوال المُقدسه وبيقول “الروايات التي في ال Ūdāna ليست في قِدَم الأبيات نفسها”.

بعد كده بيقول Anālayo إن تطور النص مبيحصلش بشكل مُفاجئ ولكن بيكون تراكُم وتدرُّج طويل. وعشان اللي بينقل النص يضمن بدرجة ما إن محتواه ميتلخبطش بيتبع ترتيب موضوعي، بحيث تكون كل مجموعة نصوص مربوطه ب theme معين يضمن وجود النصوص دي حوالين بعد أثناء نقلهم شفوياً. ولكن بردو لاحظ إن دقة الترتيب الموضوعي دي في أول النص أعلى بكتير من آخره. ف مثلاً بيقول إن في الفصول الأربعه الأولى في عشر أقوال Ūdāna كلهم ليهم موضوعات مشتركه زي السعاده والنُسك والوعي. في الفصل الخامس والسادس أربع أقوال من العشره مرتبطين بموضوع. وفي الفصل السابع والتامن اتنين من عشر أقوال بس مرتبطين بموضوع.

وكأن الدقه أعلى في بداية تعامُل ناقل النص مع النص ومع مرور الوقت بيقل تركيزه ودقّته. حاجه كده أشبه بظاهره إسمها Editorial Fatigue كان إتكلم عليها متخصص في العهد الجديد إسمه Mark Goodacre. بإختصار هي إن أي حد بيعمل عمل أدبي فيه editing كل ما الوقت بيمُر ما ما تركيزه بيقل وبالتالي في الأول بيبقا دقيق وماشي ب pattern ثابته وبعد كده بيلخبط لما يتعب ف بتبقا ال pattern بتاعته مش مُتَّسقه.

من طرُق تناقل الأقوال بشكل شفوي كانت حاجه إسمها Concatenation، وده معناه إن كل بيت يخلص بكلمه أو فقره وتتكرر في الجُزء اللي بعده عشان تفكرك بترتيب النصّ. الغريب إن إستخدام ال Concatenation بيحصل فيه بالظبط اللي حصل للترتيب الموضوعي. أول ٣ فصول فيها Concatenation، في الرابع في بس قليل، ومن الخامس للتامن مفيش.

في نقطه تانيه مهمه بيقولها Anālayo، تحليله للي تغيُّر في الأنماط اللي في فصول ال Pāli Ūdāna هو إن اللي ربط محتوى الفصول الأربعه الأولى هو إعتمادهم على الأقوال، بمجرد ما قلّت الأقوال في الفصول الأخيره وبقا الإعتماد على السرد إختفى ال Concatenation والإتساق الموضوعي. يعني نقدر نلخّص كلام Anālayo في إن النصوص الأقدم هي الأقوال، السرد القصصي دخيل عليهم، كل ما الأقوال بتقرب من بعض كل ما بيبقا فيه ترتيب موضوعي وتشابه لفظي، وكل ما بيدخل السرد ويبقا التركيز عليه بيقل الترابط اللفظي والترتيب الموضوعي.

بعد ما Anālayo حلل تناقُل نص ال Ūdāna بدأ يتكلم عن تناقُل نص ال Aṭṭhaka-vagga. أول مُلاحظه بيقولها إن في نسخة Pāli من ال Aṭṭhaka-vagga في زياده على الأقوال المُقدسه، الزياده دي هي شرح لأسباب وجود الأقوال، أو بمعنى أصح المُناسبات اللي إتقالت فيها. في وجهة نظري العالم القديم كان عنده صعوبه في التعامل مع الأقوال اللي مالهاش سياق. الفكره دي كان إتكلم عنها scholar إسمه Hugh M. Humphery في كتاب إسمه From Q to Secret Mark بيتكلم فيه عن إزاي كان في توجه لوضع أقوال المسيح في سياق عشان الكارزين يضمنو إن الأقوال تتفهم صح. وجود أقوال أو نص كامل من أقوال بدون سياق بيعرض النصّ لتنوُّع التفسير، وبالتالي الضامن الوحيد لثبات معنى الأقوال وضمان فهمها بشكل صحيح هو إنها تتحط في سياق قصصي، وده بالظبط اللي حصل في حالة نصوص ال Aṭṭhaka-vagga في نسخة Pāli.

بمُقارنة نٌسخة Pāli بالنسخه الصينيه وبأجزاء من ال Ūdāna نقدر نشوف إن نصوص ال Aṭṭhaka-vagga كانت موجوده بشكل مُنفصل. ف مثلاً في Ūdāna في ٥ و ٦ بوذا بيسأل ناسك بوذي إنه يقوله التعاليم اللي إتعلمها ف بيسرد الناسك ال ١٦ بند بتوع ال Aṭṭhaka-vagga كمجموعه مُتتاليه من التعاليم. ده يورينا إن النصوص دي كانت بنود تعليميه مُتتاليه وإتطورت بإن دخل عليها سياق قصصي يبرر السياق اللي إتقالت فيه عشان يحكم تفسيرها.

في نُسخة Pāli بوذا في جُزء قصصي بيحكي إن بوذا إستحضر صوره ذهنيه لنفسه عشان يناقشها ويجادلها في معنى أقواله. ده اسلوب أدبي معروف بيختلق فيه الكاتب شخص وهمي عشان يناقشه، هنا الكاتب عايز بوذا نفسه يفسر الأقوال وبالتالي خلاه هو المُحاوِر والمُحاوَر. على الجانب الآخر في النُسخه الصينيه بنلاقي قصه مُختلفه بيواجه فيها بوذا ٦ من المُعلمين اللي في عصره من خلال المُعجزات اللي بيعملها. يعني لو دققنا في الروايتين هانلاقي نفس الأقوال محطوطه في سياقين مُختلفين وده يورينا إن وجود الأقوال نفسها سابق على وجود السرد اللي بيفسر الأقوال.

بعد كده بيقترح تصور عن اللي حصل في النصوص المذكوره وبيقول إن الموضوع مش شفاهه vs كتابه، ولكن الواقِع إن الإتنين بيتفاعلو مع بعض، يعني كان في نص مُدوَّن تم تناقله شافهة وده خلاه يدخل سلسله طويله من التطور إنتجت النصوص النهائيه اللي إسمها ال Ūdāna وال Aṭṭhaka-vagga. بمعنى أصح، في تصوُّره الشفاهه فقط والكتابه فقط هي false dichotomy أو إزدواجيه فاسده، والأوقع هو تفاعل وتقاطع الشفاهه والكتابه.

نقطه مهمه جداً بيقولها Anālayo بخصوص السرد الشفاهي إنه بيحط المُتكلِّم وسط نقيضين، الإلتزام الكامل بالنصّ والإحتياجات الخاصه للمُجتمع أو المجموعه اللي بيكلمها. هو بيبقا عايز يلتزم بالنص بشكل كامل، ولكن بيبقا مُدرك إنه بيكلم مجموعه محتاجه تسمع تفاصيل مُعينه تخص أسئلتها وظروفها، وبالتالي بيحاول يلتزم بالنص ولكن في نقط معينه بيطرح إضافات تساعده على توصيل فكرته وتفيد اللي بيسمع. حاجه كده شبه الجدليه اللي كان بيتحط فيها مُغنيين القصص الشعبيه أو ال rhapsodists اللي بيدورو بين المدن يحكو قصص. هما بردو كانو بين شقي رحى، الأول هو إنهم عايزين يحكو للناس القصص المشهوره، والتاني هو إنهم عايزين قصتهم تبقا جديده حتى لو كان المُستمع سمعها قبل كده. إزاي تخلي القديم جديد والجديد هو نفسه المشهور القديم. وبالتالي ال rhapsodist كان دايماً محتاج يجدد قصصه، يضيف فيها مواقف ويخليها أكثر عاطفيه، ويخلي أقولها أكثر وضوحاً وأكثر تأثيراً وفيها مواعظ الناس تفتكرها وتطلب تسمعها تاني، وإلا لو كان بيكرر كلامه طول الوقت كانت الناس هاتزهق وهايخسر شغله، أو هايسمعو من حد تاني يقدر يخليهم مُستمتعين بالقصه. وبناءاً عليه فلا قَصَص شفاهي بدون embellishment أو تحسين وتطوير وتعديل وإضافه وحذف.

أخيراً بيتكلم Anālayo عن تأثير تمارين الذهن على الذاكره، وبيقول عباره خطيره جداً بينقلها عن باحث إسمه Wilson: “يبدو أن تأمل اليقظة الذهنية Mindfulness يقلل دقة مُراقبة الواقِع. بإعتناق وقبول حالة الوعي الخالية من الحُكم judgement-free يجد المُتأمِّلون التمييز بين المصادر [المعرفية] الداخلية والخارجية أكثر صعوبة”. الكلام ده معناه إن بحسب التجارب اللي سردها Anālayo واللي بينت إن قطاع كبير من اللي مارسو رياضات ذهنية كان عندهم زياده ملحوظه في الذاكره الخاطئه false memory لما خاضو تجارب بتستخدم ال critical lures، يعني بياخدو list فيها كلمات وبيتطلب منهم يتفكروها وبعد كده بيتسألو في مجموعة كلمات إن كانت في اللي ال list اللي كانت معاهم ولا ﻷ، بشرط إن يكون في بعض الكلمات مرتبطه بكلمات ال list ولكن مش منها، زي مثلاً علاقة كلمة مخده بكلمة سرير أو كلمة نوم. بحسب تفسير Wilson الشخص كل ما بينخرط في التمارين الذهنيه والتأمل بيفقد قدرته على تمييز الداخلي والخارجي، أو الذاتي والموضوعي، وده بيبان في زيادة مُعدلات الأخطاء في الذاكره. أينعم Anālayo ذكر آراء شخصي تاني بتُخالف الموضوع ده، ولكن رأيهم مفسرش نتايج التجارب وال correlation ما بين مدة التأمل وزيادة ال false memory، كل اللي عملوه إنهم قالو مش كل الحالات حصلها كده.

في مُحاضره إتعملت في تركيا سنة 2018 بيتكلم Rob Perks متخصص التاريخ الشفاهي Oral/Aural History وبيقول إن من ضمن مشاكل دراسة التاريخ الشفاهي في الماضي إن الناس كانت بتعمل transcript للتسجيلات الصوتيه وبعد كده بتحرقها، وإنتقد Perks التصرُّف ده وقال إن الدراسات الحديثه في التاريخ الشفاهي بتبين إن ال transcript أو تحويل المُحتوى الصوتي لمُحتوى مكتوب فيه مجموعه كبيره من الإنحيازات وإن المصدَر الوحيد الصالح للدراسه هو التسجيلات الصوتيه voice archives وإن كل ال transcripts مُعضله. وهذا الكلام لو تعلمون خطير!

ليه الكلام ده خطير؟ إن كان الدارسين في آخر القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين عندهم شك في نقل التسجيل الصوتي لنص مكتوب، وبيفضلو دايماً يرجعو للتسجيلات الصوتيَّه عشان يراقبو نبرة الصوت والصمت وعلامات التردُّد والإرتباك، الحاجات اللي أوقات كتير تحويل النص من صوتي لمكتوب مبيبينهاش. ما بالك بقا بالأخبار اللي موصلتلناش غير في صوره مكتوبه، ومش من الشخص نفسه ونتاج عملية إنتقال حُر وغير حُر على نطاق ضيَّق أو واسِع ولمدة كذا قرن. الإشكاليات دي بتتخطَّى الأسئله البسيطه بتاعت المعلومه صح ولا غلط، لإنك متقدرش تضمن صحة إنتقال المعلومه وإنها تقدر تتخطَّى كل الحواجز والإنحيازات السابق ذكرها.

في الورقه اللي إتكلمت عنها في البوست اللي فات، بيقول Anālayo إن مع الإنتقال الشاهي المُستمر بيبقا الحد الفاصل بين النصّ الأصلي [القانوني] وبين الإضافات التفسيريَّه ضبابي وسائل، يعني مع إستمرار إنتقال المعلومات مبيبقاش عندك آليه تخليك تعرف تستخرج الأصلي من التفسيري بيقين. أقدر أقول إن أقصى ما يُمكن الوصول ليه هو الإعتماد على تحليل داخلي بإستخدام نوع النص وتراكيبه النحويه وتقدر تبني على ده نظريه أساسها التشابُه، بحيث المُتشابه مع ما تفترض إنه الأقدم يبقا قديم والمُختلف يبقا حادث، وطبعاً ده ليه صعوباته ومش هايوصلك ليقين تام.

دراسة التاريخ الشفوي مُهمَّه جداً لإنها الحُجَّه الأهم لتأصيل المعلومات في العالم القديم. نختم بقصه ساخره عن تسرُّع الناس في قبول القصص الشفاهيه. في كاتب يوناني إسمه Lucian of Samosata عاش في القرن التاني الميلادي ، ليه كتاب إسمه The Passing of Peregrinus أو “عبور (موت) بريجرينوس”، بيحكي فيه قصة راجل إسمه بريجرينوس راح رمى نفسه في النار سنة 165م في وسط مراسم الأوليمبياد.

الطريف في القصه دي إن لوسيان بعد ما شاف بريجرينوس وهو بيحرق نفسه قابل ناس وحكالهم عن اللي حصل، ف بيقول إن الناس قعدت تسأله أسئله كتير وضغطوه جامد في التّفاصيل ف لما كان بيلاقي حد ناصح كان بيقوله التفاصيل بدقه لكن لما كان اللي بيسأله يبدو عليه السذاجه كان لوسيان بيديله تفاصيل مُختلقه عشان تخلي القصه أحلى. ف مثلاً قال للناس إن لما بريجرينوس رمى نفسه في النار حصل زلزال عظيم وخرج نسر من النّار وطار ناحية السما وقال بصوت بشري “أنا إنتهيت من الأرض، ودلوقتي هاتحرك ناحية الأوليمب”. ف طبعاً الناس لما سمعت التفاصيل دي إندهشت وفضلت تسأله عن تفاصيل أكتر زي مثلاً النسر إتحرك ناحية الشرق ولا الغرب، ف بيقول إنه بقا يديهم أي إجابه كانت بتيجي في دماغه.

بعد كده وهو راجع للإحتفال بتاع الأوليمبياد لقا راجل بيحكي قصة بريجرينوس وبيوصفه لوسيان إنه راجل شعره رمادي وعنده دقن مدياه هيبه ومخليه شكله راجل ثقه كده وأمين. وسط ما الراجل كان بيحكي إزاي بريجرينوس رمى نفسه في النار بدأ يحكي إزاي النسر خرج من وسط النار وطار ناحية السما وكان بيقسم للناس إنه شاف النسر بنفسه، وبيقول لوسيان “في حين إني أنا اللي طيّرت النسر عشان أستهزأ بشوية الأغبيا المُغفلين”.

مجال التاريخ الشفاهي أو التاريخ المسموع Aural History زي ما بيسميه Perks مجال صاعد بقوَّه حالياً. دراسته مش مُباشره ومش يقينيه ولكنها نتاج مجموعه كبيره من التخصُّصات من ضمنها التاريخ واللسانيات وعلم الإجتماع وعلم النفس. ولما تقرا المجالات الأربعه دي هاتُدرك أبعاد مُختلفه لظاهرة الذاكره والسرد وإنتقالهم، وده هايوريك إن الثقه العمياء في الذاكره هي شئ أبعد ما يكون عن الصحه، ولكنها تظل مصدر مُهم للمعلومات خصوصاً في المُجتمعات اللي بينعدِم أو يندُر إعتمادها على الكتابه. وبالتالي الموقف المُعتدِل ما بين الإهتمام بالشفاهه وإدراك صعوباتها ونواقصها وإختلاقاتها هو المرحله الأولى لدراسة الظاهره دي بإنصاف.

Similar Posts