المُحاكاة الأدبية في العالم القديم

الفصل الأول:

في العالم القديم كانت نسبة اللي بيقرو ويكتبو أقل بكتير من توقعاتنا، في مدينه زي روما في القرن الأول مثلاً بتُقدِّر نسبة المُتعلمين بحوالي 5-15%، وطبعاً كان الرقم ده بيختلف على حسب المُقاطعه ويختلف عن نسب المُتعلِّمين خارج روما نفسها وفي باقي المناطِق داخل الإمبراطوريه. طب ليه عدد المُتعلِّمين كان قليل؟ في أسباب كتير من ضمنها إرتفاع تكاليف التعليم والأدوات المُستخدمه في الكتابه، ف نسخ الكتب مثلاً كان مُهمَّه شاقه ومُكلِّفه، وبالتالي عشان تتعلم محتاج مُعلِّم خاص لحد ما تكبر وتلتحق بمدرسه ولازم تكون هاتقدر تغطي مصاريف التعليم وده كان بيبقا مُتاح للعائلات الغنيه مش للعوام اللي من صغرهم بيضطرو يتعلمو حِرفه عشان يعيشو ويساعدو عائلاتهم توفر مُستلزماتها.

عندنا من القرن الأول كتاب مهم لمعلم البلاغه كوينتيليان Quintilian، الكتاب إسمه Institutio Oratoria، وفي الكتاب ده بيشرح إزاي تقدر تعلِّم الطفل أدوات البلاغه من سن صغير جداً ولحد ما يكبر ويقدر يتمكن من أدواتها. في جُزء كبير من الكتاب بيدور حوالين فكرة المُحاكاه الأدبيه أو ال Mimesis أو باللاتيني اللي كتب بيه كوينتيليان IMITATIO، وزي ما ممكن تكون لاحظت الكلمتين موجودين في الإنجليزي حالياً في الأفعال Mimic و Imitate ومُشتقاتهم.

المقصود بالمُحاكاه هنا -زي ما بيقول كوينتيليان- إن الطفل لازم الأول يتربى على الأعمال الأدبيه العظيمه، وبعد كده يبتدي يطوَّع أسلوبها لهدفه الخاص، وبعد كده يقدر يكون عنده أسلوبه الخاص اللي يتفرَّد ويتمايز عن الأعمال اللي كان بيُحاكيها زمان. حتى لو مكنتش تعريف كوينتيليان قال ايه، على الأرجح كنت هاتلاحظ إن إنجيل متى قال جمله بنفس المعنى ده: “مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كُلُّ كَاتِبٍ مُتَعَلِّمٍ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ يُشْبِهُ رَجُلًا رَبَّ بَيْتٍ يُخْرِجُ مِنْ كَنْزِهِ جُدُدًا وَعُتَقَاءَ” (متى 13: 52)، الكاتِب المُتعلِّم مش بس قادر على تكرار القديم ولكن على تحويل القديم لجديد.

كنت إتكلمت كذا مره قبل كده عن رواية Lord of the Flies للكاتب الإنجليزي William Golding ومُحاكاتها لرواية The Coral Island للكاتب الاسكتلندي روبرت مايكل بولانتاين، وكمان كنت إتكلمت عن مُحاكاة روايات كتير لقصيدة Pyramus and Thisbe اللي كتبها اوفيديوس ف مثلاً هاتلاقي تشابه كبير بينها وبين بداية رواية Callirhoe لخاريتون الأفروديسي في منتصف القرن الأول. بعدهم من المُحتمل إن كان نُسخه مُشابهه للقصه عند دانتي أليجري، وبعده شيكسبير قدم أشهر مُحاكاه للقصه وهي Romeo and Juliet، وبعدهم القصه القصيره Duty للكاتبه Pamela Rafael Berkman، وأخيراً في القرن العشرين والواحد والعشرين نُسختين من فيلم West Side Story آخرهم كانت في 2021.

لو قريت Pyramus and Thisbe وكاليروي وروميو وجوليت و شوفت West Side Story مش بعيد تلاقي نفسك عارف ومتوقِّع أجزاء كبيره من الأحداث، ومش هايكون صعب عليك بالمره إنك تربط مابينهم كلهم بخط مُشترك سواء في الحبكه الإجماليه أو في التفاصيل الدقيقه، ولكن السؤال هو إزاي كل واحد منهم بيقدملك القصه اللي انت ممكن تكون عارفها بطريقه تخليها عمل مُختلف ومُميَّز وبيوصل رساله خاصه وجديده!

سنة 92 قبل الميلاد الرومان قفلو اخر مدرسه لتعليم البلاغه وإستبدلوها بنوع جديد من الدراسه (المعلومه دي هاتلاقيها في كتاب Murphy and Wiese بعنوان Quintilian on the Teaching of Speaking and Writing سنة 2015 صفحه 11 أو XI من مقدمة الكتاب). النوع الجديد ده هو اللي قدمه كوينتيليان في كتابه سابق الذكر، وبالتالي اللي هاتقراه عن كوينتيليان وهانتكلم فيه مع بعض ده مش فكر كوينتيليان لوحده ولكن المنهج المُستخدم في السياق الروماني كله.

بيقول Murphy و Wiese إن التعليم بيبدأ من عند الآباء، وإن الهدف من التعليم مش المعلومه ولكن تكوين إنسان صالح. بيبتدي كوينتيليان كتابه (1.1.15) بتحذير للآباء من إن أولادهم هايقلدوهم في اللي بيسمعوه منهم، وبيتحرك من النقطه دي لدور المُعلِّم اللي لازم يكون قدوه ومثال للتلاميذ بتوعه وبيقول إن التلاميذ قبل ما تُحاكي النصّ هاتُحاكي المُعلِّم، وبالتَّالي أول مُحاكاه للطفل هي مُحاكاة أهله ومُعلِّميه.

في (الكتاب التاني، الفصل التاني، الفقره التامنه) بيقول كوينتيليان نقطه مهمه عن “الصوت الحي”، المقصود هنا بالصوت الحي إن التلميذ مش بيتعلم من النصوص اللي بتتحط قدامه، ولكن من صوت المُعلِّم اللي بيرشده لطريقة القرايه والفهم نفسها. قبل ما نكمل مع كوينتيليان خلينا نتحرك 2000 سنه قدام لمقال بعنوان Monkey See, Monkey Do, Monkey Connect، بيتكلم فيه de Waal عن كيفية تعلم القرده والتجارب اللي إتعملت عليها. من ضمن التجارب إن الباحثين إدو القرده صندوق الباب بتاعه بيتفتح لوحده وسابو القرود تتفرج عليه عشان يشوفو بعد كده هل هايتعلمو يحركو الباب ويفتحوه لوحدهم بعد كده ولا لأ، الغريب إن على الرغم إن القرود شايفه الباب بيفتح في أنهي ناحيه لكن متعلموش يعملو ده لوحدهم الا لما شافو قرد تاني بيفتح الباب. اللي الباحثين توصلوله هنا إن التعلُّم هو آليه إجتماعيه بالأساس، وإن التعلُّم مبيحصلش بعُزلة الفرد مع نفسه ولكن من خلال تواصله مع آخرين. يعني عايز تتعلم حاجه حاول تلاقي سياق إجتماعي وناس حواليك مهتمه بالموضوع ده، ساعتها العمليه التعليميه هاتكون أسرع وأكثر تأثيراً.

نرجع تاني لكوينتيليان، بيكمل بعد كده في نفس الفقره وبيقول إن خلال التعليم لازم التلاميذ يتعرَّضو لأمثله كتير عشان يقلدوها، وإتكلم تاني للفكره دي في (1.9.2) و (1.9.3) وبيقول إن أول حاجه الأطفال لازم تتعملها هي قصص Aesop ويرددوها ورا المُربيَّه بتاعتهم من سن صفير وبلغه بسيطه، وبعد كده يبتدو يعبرو عنها بكتابه بسيطه. والمرحله اللي بعدها إنهم يعبرو عن نفس المعاني بكلمات تانيه، واللي بعدها يتعلمو يختصروها ويستفيضو فيها مع الإحتفاظ بمعنى وغرض الكاتِب. يبقا بالنسبه لكوينتيليان التلميذ بيتعلم يحُاكي ويعيد صياغة النصوص من خلال تغيير التراكيب والكلمات والإختصار والإستفاضه، وبيتمرن على ده في النصوص الكلاسيكيه اللي ليها مكانيه عاليه وسط الناس بسبب محتواها وجزالة اللغه بتاعتها، وبالتالي أي مُتعلِّم هايكون بالضروره عارف هوميروس وفيرجيل (ذكر الإتنين دول تحديداً في 1.8.5) وايسوب واوفيديوس وسوفوكليس ويوريبيديس وغيرهم.

في (10.2.14) بيحذر كوينتيليان إن المُحاكاه ممُكن بردو تكون مُضره، واحده من الحالات اللي بتكون مُضرَّه إن التلميذ يتعلم يُحاكي نصوص رديئه، لدرجة إنه بيقول إن أوقات النصوص الرديئه بتفسد الصحيح اللي بيتعلمه التلميذ. وهنا تاني بييجي دور المُعلِّم اللي بيكون مسئول عن إختيار الماده اللي تصلُح للطالب.

في (1.1.36) بيضيف كوينتيليان مهاره جديده للي بيتعلم البلاغه أو الخطابه وهي الذاكره. البلاغه عند كوينتيليان مش بس تعلُّم القراءه والكتابه، ولكن كمان القدره على الخطابه والتحدُّث للعامه، وبالتالي من الضروري إن اللي هايكلم العامه يقدر يستخدم ذاكرته في إنه يستدعي ويستحضر اللي إتعلمه.

الفكره بتاعت المُحاكاه والتفكير المُستمر في النصوص القديمه أقدم من كوينتيليان بكتير، في فقره عن أفلاطون (Plato, Prot. 325E-26A) بيقول فيها إن بمجرد ما الأطفال تتعلم الحروف ويقدرو يفهمو المكتوب لازم يبتدو ينفتحو على نصوص الشعراء الكبار ويقروها في الفصول ويحفظها عن ظهر قلب، عشان من كتر ما هايقرو ويعرفو الأعمال المهمه دي هاتكون جواهم غيره إنهم يقلدوها من حيث جودتها.

في كتاب The Challenge of Homer ل Karl O. Sandnes صفحة 31 في إقتباس مهم لهيراكليتس من كتابه Homeric Problems 1.4-7 بيوصف فيه كتابات هوميروس بأنها كِساء الأطفال وغذاء العقل ورفيق الإنسان في نموُّه وصديقه من الصِبى للشباب ومن الشباب للرجوله وبيكون حاضِر مع الإنسان في تقدُّم عمره وفي شيخوخته. بيقول “إحنا مش بنزهق منه، وكل ما بنتوقف عنه بنعطش تاني مرات ومرات. بإختصار، نهاية هوميروس بالنسبه للبشر هي نهاية الحياه”. بالكلمات دي هيراكليتيس بيوريك أد إيه النصوص القديمه دي كانت محوريه، كانت أساسيه وبتشكل الإنسان، وبتكون جُزء من وجدانه وحياته من سِن صغير ولحد نهاية حياته. مش بس كده ده بيشاركه تعلُّم اللغه وبينقل كتاباته كلمه كلمه وبيهضمها عشان يعيد صياغتها ويعيشها عشان يقدر يختصرها وأوقات يشرحها بتفصيل أكتر.

بيكمل بعد كده كوينتيليان في (10.2.1) وبيقول إن التلميذ بيكتسب من النصوص دي حصيلة الكلمات والصُّوَر وفن التأليف، وبيقول إن جُزء كبير من البراعه هو في المُحاكاه، وبالرغم إن الإبداع بتاع إستحضار الجديد مهم ولكن من الحَسَن والمُفيد إننا نقدَر نُحاكي ما هو رائع ومُميَّز. ولكن بيقول بردو إن المُحاكاه مينفعش تتوقف على الكلمات، ولازم تتخطى ده وتوصل للأشياء والأشخاص والحُكم على الأمور والترتيب، ويكون فيها تنوُّع في عرض الحقائق وعلى المُحاججه والبرهنه، والمهاره الكبيره في عرض المشاعر، وإن كُل ما التلميذ كان عنده إدراك أكبر للحاجات دي ما كان أبرع في مُحاكاة النصوص اللي بيتعلم من خلالها. بالتالي المُحاكاه هي عمل خلَّاق، بيستخدم القديم عشان يبني جديد. عمليه إبداعيه فيها الكتابات القديمه بتتحول لأدوات لبناء نص جديد لمستمع جديد في زمن جديد ولمناقشة أمور جديده.

Similar Posts