المشكلة الإزائية

المُشكلة الإزائية هي السؤال الذي سعى الأكاديميين للإجابة عليه بخصوص العلاقات النصية بين البشارات الثلاثة الأولى (مرقس ومتى ولوقا). وفي هذا المقال نتعرض للمحورين الأساسيين في إجابة السؤال الإزائي وهو أي الأناجيل جاء أولاً وما هي علاقة متى ولوقا بمرقس وهل توجَد مصادِر أخرى لتِلك البشارات أم لا. وكما ستقرأ في المُقدمة، يُوضِّح المقال كيف تعاملت الجماعة الأولى مع النص، وكيف حرَّرَت الكنيسة تِلك البشارات وصاغتها بمرور الزمن لتُواكِب إحتياجات المؤمنين في القرن الأول. ولكن وجب التنويه على أن المقال يعرض رؤوس أقلام، إذ لا يُمكن إختزال ما تباحثه المتخصصون في ما يقارن القرن ونصف في مقال من خمسة آلاف كلمة.

في هذا المقال نتقصَّى معاً ما يُمكن أن نعرفه عن الثلاثة بشارات الأولى المُلقَّبة بالأناجيل الإزائية من خلال دراستها داخلياً بأدوات النقد الأدبي والتاريخي. وكلمة الإزائية التي توازيها الإنجليزية Synoptic تأتي من اليونانية وتعني تِلك النصوص التي يُمكن أن تُرى معاً أي بالمُقارنة والتوازي، ومنها تأني كلمة Synopsis أي تِلك الكتب التي تنظُم نصوص البشارات الثلاثة في جداول دراسية كتلك التي يُستعان بها في هذا المقال.

(كُتب هذا المقال في أغسطس 2018 ويُعرض على الموقع لأوَّل مرَّة)

تمهيد:

يجِد القارئ المُتأنّي لنشاة الجماعات الدينيَّة أن النصّ ينشأ وسط الجماعة، وتقوم الجماعة بتأويله وصياغته وإعادة تحريره في العديد من المواضع. نشأت المسيحيَّة كجماعة يهوديَّة، جماعة نادى في وسطها يسوع بملكوت الله، و في ضوء تِلك الكرازة و بتأثير ذلك الشّخص صاغت الجماعة نصوصاً متنوِّعة النّوع الأدبي genre و الفكر اللاهوتي على مدى الخمسين عاماً. جَمَعَت الكنيسة -ممثلة في الأجيال اللاحقة للتلاميذ والرسل- تِلك الكتابات و إستقرَّت على أغلبها أثناء الصِّراع مع المارسيونيَّة في القرنِ الثّاني. لا يعرف التّاريخ جماعة كان النصّ فيها أسبق على الفِكر، و إذ لم يكُن النصّ أسبق على الفكر لم تكُن سُلطة النصّ فوق سُلطة الفِكر والجماعة نفسها. لكل نَصّ عدد من التأويلات، و ضامن الجماعة الوحيد لصلاحيَّة النصّ هو أن تضَع الجماعة إطاراً هرمنيوطيقياً يحكُم قراءته. لذا فالإختلاف ليس خلافاً حول النصّ فقط، بل أيضاً حول المنهج الذي يصلُح لتفسير النص. فمثلاً نجِد العديد من الصراعات اللاهوتية قد نشبت حول نصوص يتَّفق عليها الطرفان ويختلف كل منهم حول كيفية تفسيرها، وأحياناً يحتكم الطرفان لما يُسمَّى التقليد أو تِلك المعلومات الأساسية التي ينسبها الآباء لزمن التلاميذ والرسل بل وأحياناً لأشخاص التلاميذ والرسل أنفسهم..

ما سبق ليس قراءة لاهوتيَّة، بل هي قراءة إجتماعيًّة تاريخيَّة تنطبِق كذلك على الجماعاتٍ الأخرى. قد يُصدِّر أصحاب تصوُّر الجماعة الكتابيَّة تِلك الفكرة في الحديث عن العهد الجديد، لكن يظهَر ضعف تِلك الفكرة متى تم تطبيقها على الجماعة اليهوديَّة. إستغرق تدوين العهد القديم قروناً عديدة، فهل النصّ أسبق على الجماعة في تِلك الحالة أيضاً؟. إن فرضنا إمكانيَّة تحقُّق تِلك الجماعة الكتابيَّة، الجماعة التالية على النصّ، الجماعة التي تتلقَّى الإطار الهرمنيوطيقي من النصّ ولا تفرضه عليه، فما هي أمثلة تِلك الجماعات في التّاريخ؟. الثَّابت هو تعدُّد قراءات النصّ، و أن الأمثلة الثلاثة الأشهر -الأديان الإبراهيمية-  قد أنتجت منهجيَّات هرمنيوطيقيَّة لضبطُ النصّ. أمّا تِلك الجماعات المُعادية لهرمنيوطيقا الجماعة عادة ما تظهَر لاحقاً، كما هو حال البرتوستانتيّة و تيّار القُرآنيين وبعض الجماعات اليهودية التي رفضَت سُلطة القراءات التقليدية. ما سبق لا يعني بالضّرورة صحَّة تفسير هرمنيوطيقا الجماعة للنصّ، لكنّه يؤكِّد أنّه لا جماعة تُنتِج نصّاً و تتداوله بدون ضابط تفسيري يحكمُه.

في القرن الواحد و العشرين، يعلم جميعنا مبدأ “حقوق الملكيّة الفكريّة”، و التي يتطلّب حِفظها سُلطة قانونيّة عُليا و تقدُّم تكنولوجي كبير يُتيح لتِلك السُلطة فهرسة جميع النّصوص المنشورة. ما هو -إذاً- البديل الذي مارسه المؤلّفون في العصور القديمة؟ كيف لكاتِب أن يحفَظ نسبة نصّ لنفسه؟ كيف له أن يضمن عدَم وجود تعديلات على النصّ بعد إنتشاره؟. في غياب مفهوم الملكية الفكريّة و غياب سُلطة عُليا تحكُم الأمور و غياب التكنولوجيا، كان اللجوء لسُلطة الجموع هو الحلّ. نعلَم من رسالة بليني الصّغير إلى ماتيروس اريانوس أن الكاتِب بعدما إنتهى من عمله يتلو النصّ أمام زملائه كي يستقبِلَ تصحيحاً لأخطاؤه، و في تِلك الرسالة يبدو أن بليني الصّغير يربُط بين “النَشر” publication و بين التلاوة الشفاهيّة أمام الجموع. و بوضوحٍ أكثر يقول: “لست نادماً على مُمارستي ]تلاوة النّصوص قبل نشرها[، فقد علّمتني الخبرة أن لها فوائد عِدّة … لا شئ يُرضي رغبتي في الكمال، و لن أنسى أهميّة وضع كل شئ في أيدي الجموع. أنا مؤقن أن كلّ عمل ينبغي أن يُراجَع أكثر من مرّة، و أن يُقرأ للعديد من النّاس إن كان المطلوب أن تحظى بقبولٍ كامل على نطاقٍ واسع”[1]. و لكن أيضاً أدرك الكُتّاب القُدامى أنّه بخروج النصّ من أيديهم يصير النصّ آداة لمُستقبليه، نقرأ مثلاً في المبادئ لأوريجينوس أنّه يستحلف من يقرأ كتابه أن لا يُضيف للمكتوب أو يحذف منه أو يُغيّره، و يعده بعذاب أبدي بعيداً عن الميراث السّماوي إن خالف الأمر. إذاً فالكاتب يوثّق علاقته بالنصّ بتلاوته، و لكن حين صار النصّ في أيدي الجموع يحدُث ما يُعرف أدبيّاً بـ “موت الكاتب”.

موت الكاتب هو أن يخرُج النصّ عن سُلطان الكاتِب بعد تداوله، في تِلك المرحلة لا يُمكن للكاتِب أن يشرَح ما أراد أن يقول، فتبدأ الجماعة في تفسير النصّ بموروثهم الفِكري الذي قد يتضمّن شيئاً من صوت الكاتِب نفسه و من الوارد أيضاً أن يكونَ مُغايراً تماماً. الموروث الفِكري في تِلك الحالة يتحوّل لا فقط إلى مُفسِّر بل إلى “ضابط”، لا يخلق فقط التّفسير بل يُخمِد ما يُخالفه من قراءة. و في مُحاولة لربط الجماعة لقراءتها بقصد الكاتِب نفسه تُحيل كلّ جماعة قراءتها إلى صوتٍ أقدم أقرب زمنيّاً للكاتِب. فنقرأ في كتابات ايرينيوس أنّه سمع و تعلّم من بوليكاربوس تلميذ يوحنّا بن زبدي تلميذ المسيح، و عليه، فسُلطة ايرينيوس في نقد الغنوسيين تنبُع من تسلسُل شرح الإيمان[2]. و لكن من الجدير بالذكر أن المنطق نفسه هو منطق الغنوسيين، فقال باسيليدس أنّه تعلّم على يد جلاوكياس تلميذ بطرس[3]، و أيضاً فالنتينوس سمع من ثيوداس تلميذ بولس، و النحشيّين Naassenes (من العبرية נָחָשׁ أيّ “حيّة”) تسلّموا الإعتقاد من مريم التي تعلّمت على يد يعقوب أخا الرب[4].

إن كانت النصوص في عُهدة الجماعات، وإن كان الجميع يُحيل قراءاته إلى التَّقليد، فماذا إذا يُمكن أن تخُبرنا النصوص نفسها عن تاريخ تكوينها بعيداً عن الإطار التفسيري الذي تفرضه وتفترضه كل جماعة بسلطة التقليد؟ بحثاً عن تاريخ أكثر دقة حاول الباحثون مقارنة وتحليل نصوص البشارات الثلاثة الأولى بهدف تحديد تاريخ تدوينها والوقوف على أسباب وطبيعة التناص فيما بينها. فلا يخفى على من يقرأ الثلاثة بشارات الاولى أنها تتشابه نصياً إلى حدٍ بعيد، ليست فقط تتشابه بل بالأحرى تتطابق في الكثير من المواضِع. في هذا المقال سنشرح أسباب التشابُه ونُقدِّم بعض الأدلة البسيطة التي تدعَم الفرضية الأكثر شيوعاً وسط الأكاديميين وتُسمَّى نظرية المصدرين.

أسبقيّة مرقس Marcan priority

التأريخ التّقليدي لبشارة مرقس كما نقرأ في كتابات ايرينيوس (130-202م) هو كونهِ تالياً لبشارة متّى. كُتب متّى بالعبريّة أثناء كرازة بطرس و بولس في روما (قبل 64م) بينما كُتب مرقس بعد رحيلهما (موتهما) بناءاً على كرازة بطرس (بعد 64م). يأتي لوقا ثالثاً، مكتوباً بيدّ مُصاحب لبولس في كرازته، و أخيراً يوحنّا. هذا هو التّرتيب المتعارف عليه و المُستخدم في جميع مخطوطات العهد الجديد و تحقيقاته ترجماته. في تاريخ الكنيسة ليوسابيوس (3: 39: 15) نقرأ جُزء من كتاب مفقود لبابياس (حوالي سنة 140م): “و إعتاد الشّيخ أن يقول هذا: «صار مرقس مُترجماً لبطرس و كتب بدقّة كل ما تذكّره، لكن ليس بترتيب الأشياء التي قالها أو فعلها الرّب». لأنّه لم يسمع الرّب ولا تبعه و لكن لاحقاً -كما قُلت- تبِع بطرُس الذي إعتاد أن يُعلّم متى إقتضت الضّرورة”.

في القرنِ الرّابِع لاحَظ أوغسطينوس التّشابُه الكبير بين بشارتي متّى و مرقس، و لجأ لتفسير الأمر من خلال التّرتيب التّقليدي للأناجيل بأن مرقس هو إختصار لمتّى. مُحاولة أوغسطينوس لتخطّى التّشابُه بين الأناجيل الثلاثة متّى و مرقس و لوقا لم تكُن الأولى، في القرن الثّاني تبنّى مارسيون نُسخة من لوقا بإعتبارها “الإنجيل” الوحيد، و إستخدم يوستين الشهيد نصوص مُدمجه تُشبه نصوص متّى و لوقا[5]، و تلاه تاتيان السّوري الذي دمجَ الأربعة بشائر في نصّ Diatessaron الإنجيل الرُّباعي. ظاهرة دَمج النّصوص تبدو قديمة و تظهر في كتابات الآباء الرّسوليين، و سنعود إليها في الفصل التّالي.

إن نظرنا إلى منطقيّة طرح أوغسطينوس بأن مرقس هو إختصار لمتّى فمن المُفترض أن نجِد فقرات مرقس أقصر دائماً من متّى. و لكن في المُقابل يبدو أن متّى هو من إختصر مرقس في عدّة مواضع، فإن كان مرقس إختصاراً لمتّى -كما ظنّ أوغسطينوس- فلماذا يُخالف ميله للإختصار ليُطيل نصوص متّى؟ و إن أراد إختصار متّى لماذا يحذِف ميلاد يسوع و ظهورات القيامة و الموعظة على الجبل و الأمثال و الكثير من أقوال يسوع؟. راجِع الفقرات التّالية مثلاًَ:

في سنة 1863 قدّم H. J. Holtzmann نظريّة أسبقيّة مرقس و التي تعني أن مرقس هو الإنجيل الأوّل و إستخدمه متّى و لوقا لكتابة بشارتيهما. في عمله الأشهر “The Four Gospels” وضع B. H. Streeter نقاطاً تُمثّل الطّرح الكلاسيكي للنظريّة، و في ما يلي النّقاط التي قدمها كلاهُما في طرحه:

بسبب التّشابُه بين البشائر الثّلاثة الأولى و علاقتها بعضها ببعض تم تسميتها بالأناجيل الإزائيَّة أو “synoptic”، و صارت هذا البشائر تُدرس بالمُقارنة من خلال كتابتها في أعمدة رأسيّة، و سُمّي الكتاب الذي يُقارن البشائر في أعمدة “synopsis”. من الجدير بالذّكر أيضاً أن أقدم كتاب لمُقارنة الأناجيل هو كتاب أمونيوس الإسكندري[8].

فقرة إزائيّة مُقارنة (1)

لاحظ تشابُه الثلاثة أناجيل (بخلاف إضافة 6 في متى). في تِلك الفقرة -مثلاً- نجِد أن متّى و لوقا يتّفقان مع مرقس نصّاً و ترتيباً، فيما عدا بعض الإضافات التي تظهر في متّى و لوقا مثل (2) إضافة “إبن الإنسان” في متّى، و (3) إضافة إسم “إرميا” في متّى و “قام” في لوقا، و (5) إضافة “إبن الله الحي” في متى و “الله” في لوقا. و يُمكن أن تُظهر نفس الفقرة صعوبة أطروحة أوغسطينوس، فإن فرضنا أن التصوُّر التّقليدي صحيح، و أن كاتب بشارة مرقس هو مرقس تلميذ بطرس -كما كتب بابياس- فلماذا يحذِف مرقس تطويب يسوع لبطرس؟، هل الرّغبة في الإختصار كافيه لجعله يحذف نصّ يُعطي لبطرس تِلك الكرامة؟، أم أن الأرجح هو أن متّى هو من أضاف تِلك الفقرة لإنجيله بعد إستخدام مرقس في حين إكتفى لوقا بنصّ مرقس و لم يُضِف عليه (و غياب الفقرة في لوقا يصُبّ في صالح عدم معرفة لوقا ببشارة متّى و إستخدامه لمرقس فقط).

فقرة إزائيّة مُقارنة (2)

في تِلك الفقرة أيضاً نجِد تشابُهاً كبيراً بين الثّلاثة بشائر، فيما يتفرّد مرقس بفقرة (5) و متّى بالفقرة (6) و مرقس بعبارة “في أيام أبياثار رئيس الكهنة” التي حذفها متّى و لوقا إذ لم يكُن أبياثار رئيساً للكهنة حينما دخل داود للبيت و أكل خبز التّقدمة.

فقرة إزائيّة مُقارنة (3)

نجد في تِلك المُقارنة أنّه إمّا متّى أو لوقا أو كليهما يلتزم بعبارات مرقس، إلّا في مواضع 4، 9، 11. يُمكن أن نُفسِّر رقم 9 بطريقتين، إمّا أن متّى و لوقا حذفاها لصعوبة العبارة، إمّا إنّها أُضيفت لمرقس لاحقاً بعدما إستخدم متّى و لوقا النصّ. أمّا 11 فهي مُكرّرة: “و قال لهم: الحق أقول لكم” و لهذا حذفها متّى و لوقا.

بعد هذا الطّرح الموجز لأسبقيّة مرقس يتبقّى سؤالٌ هام، في (4) لماذا حذف متّى و لوقا “ومن أجل الإنجيل”؟. في الجدول التّالي مُقارنة بين الأناجيل الثلاثة في إستخدامهم لكلمة الإنجيل أو البشارة:

يبدو من تِلك المُقارنة أن مرقس قد إستخدم كلمة إنجيل 7 مرات (بإستثناء النهاية الطويلة لمرقس 16: 9-20 غير الموجودة بالمخطوطات الأقدم)، لم يتّفق لوقا مع مرقس ولا مرّة منهم، فيما يتّفق متّى مرّتين. من غير الوارد أن يتّفق متّى و لوقا على حذف كلمة إنجيل في خمسة مواضع مُختلفة، خاصّة مع إستخدامهم للكلمة في مواقع أخرى (متّى أربع مرّات و لوقا مرّتين)، لذا فالأرجح أن إنجيل مرقس قد مرّ بمرحلة تحرير أخير بعد إستخدام متّى و لوقا له، في تِلك المرحلة أُدخلت كلمة الإنجيل عدّة مرّات، نفس الظاهرة نجدها في العديد من الأسماء و بعض الأمثال و العبارات أيضاً (فقرة إزائيّة للمُقارنة 2 رقم 5)، و المُشترك بين جميعها هو غياب سبب لحذف متّى و لوقا لها. هذا الأمر وضّحه العديد من الدّارسين مثل Bultmann[11] و Koester[10] و Burkett[9] الذين إعتبروا نُسخة مرقس الحالية هي نُسخة مُعاد تحريرها بعدما إستخدم متّى و لوقا نصّ مرقس الأقدم. أنظُر الجدول التّالي كمثال لإضافة الأسماء على مرقس لاحقاً (لاحظ نقطة 1 و 4).

فقرة إزائيّة مُقارنة (4)

إذاً، يُمكن مما سبق أن نُلخِّص مُعطيات البحث كالتّالي:

1- يتشابة الثلاثة أناجيل نصّاً مما يستوجب دراسة العلاقة بينهم.

2- مُقارنة البشائر في أعمدة تُظهر إتّفاق متّى و لوقا على ترتيب مرقس و نصّه، إن إختلف أحدهم مع مرقس نجد أن الآخر يتّفق مع مرقس. ]راجع فقرة إزائيّة (1) نقطة 6، فقرة إزائية (2) نقطة 6، فقرة إزائية (3) نقطة 7 و 8 و 13[

3- يبدو أن متّى و لوقا تاليان على مرقس، و نظراً للتّشابُه النصّي مُعتمدان عليه. لو إفترضنا العكس -أن مرقس هو من إعتمد على متّى أو لوقا- فعلينا أن نُقدّم مُبرِّراً واضحاً لحذف مرقس لرواية الميلاد و الموعظة على الجبل و أقوال و أمثلة يسوع و ظهورات القيامة. لعدم توفر أيّ مُبرِّر منطقي لحذف مرقس لهذه الفقرات ففرضيّة أوغسطينوس لا تجِد قبولاً الآن، و الأكثر إتّفاقاً مع المُعطيات هو إستخدام متّى و لوقا لنُسخ من مرقس.

4- نظراً لوجود إضافات و حذف مُختلفين في إستخدام متّى و لوقا لمرقس من غير الوارد أن نفترض معرفة متّى بنصّ لوقا أو لوقا بنصّ متّى.

5- من الواضح في مرقس أنّه تمّت إضافة مجموعة من الأسماء (إسم “بارتيماوس” في 10: 46 بالإضافة لأسماء بطرس و يعقوب و يوحنا كما ذكرنا) و التّعليقات (راجع فقرة إزائيّة (2) نقطة 5) و مثل الحبّة التي تنمو سرّاً (مرقس 4: 26-29) على النصّ بعدما إستخدمه متّى و لوقا، كما يُعتبر حذف متّى و لوقا لهذه الفقرات غير وارد لعدم وجود مُبرّر أدبي أو لاهوتيّ واضح للحذف.

مصدر الأقوال (Q)

لاحظ الدّارسين أن متّى و لوقا لا يتّفقان إلّا في المادّة المُشتركة مع مرقس و في مجموعة أقوال ليسوع لا توجَد في مرقس. هذه الإتّفاقات تُظهر تشابُهاً شديداً في النصّ بين متّى و لوقا، و لا يُمكن تفسيرها إلّا بفرضيّة واحدة من ثلاث: إعتماد متّى على نصّ لوقا، إعتماد لوقا على نصّ متّى، أو أن كلاهُما قد إعتمد على مصدر أقدم. توجد إشكاليات حقيقية في فرضيّة إستخدام متّى للوقا أو لوقا لمتّى، و هي عدم وجود مُبرّر لحذف لوقا للمواد التي يتفرّد بها متّى و العكس، عدم تأثُّر لوقا بتعديلات متّى لمرقس أو العكس، عادةً ما تظهر في لوقا صورة أقرب لمرقس مقارنة بمتّى و نصّ أبسط للأقوال مُقارنة بمتّى. لذا فالإفتراض المنطقي هو إعتماد متّى و لوقا على مصدر للأقوال (Q من الألمانيّة Quelle أيّ مصدر) بجانب مرقس بدون أن يعرف متّى نصّ لوقا و العكس. في تِلك الحالة سيتّفق متّى و لوقا في المادّة المأخوذة من مرقس و من مصدر الأقوال، و سينفرد متّى و لوقا بمادتهم الخاصّة التي صاغوها أو تِلك التي أخذوها من مصادِر يتفرّد بها كلّ منهم.

قبل شرح نظرية مصدر الأقوال و أدلّتها يجب أن نوضِّح أنّه لا توجَد حلول بسيطة للمُشكلة الإزائيّة قادرة على شرح جميع النّصوص. لذلك فالشّكل المُوضّح هو التّصوُّر الكلاسيكي لنظرية المصدرين و الذي نكتفي في هذه الورقة بتقديمه. السَّبب وراء صعوبة المُشكلة الإزائيّة هو أن العلاقة بين النّصوص لا تعتمد فقط على من كتبوها، و لكن من نقلوها أيضاً. كما وضّحنا سابقاً مرقس هو البشارة الأقدم، و لكن بعد تدوين متّى و لوقا ندُر إستخدام مرقس في القرن الثّاني لوجوده مُضمّناً في متّى، و بالتّالي صار متّى هو البشارة الأكثر إستخداماً، و مع إنتشار التّقليد الذي يعتبر متّى البشارة الأقدم (راجع تعليق بابياس) من الوارد إتّجاه بعض النُّسّاخ لتعديل نصوص مرقس و لوقا لتتوافق نصّاً مع متّى.

أحد العوامل الأخرى التي يجب أن تؤخذ في الإعتبار هو ما سبق ذكره عن وجود تعديل لاحق على مرقس بعد إستخدام متّى و لوقا له. من المُعضل للفرضيّة الكلاسيكيّة للمصدرين تفسير إتّفاق متّى و لوقا على غياب كلمة “إنجيل” من متّى و لوقا بالرّغم من ورودها عدّة مرّات في مرقس، أو إسم بارتيماوس الوارد في مرقس (10: 46)، و هكذا. لهذا السّبب قدّم العديد من الدّارسين نظريات أكثر تعقيداً بنوها على نظرية المصدرين، مثل نظرية التّعديل اللاحق لمرقس، و نظرية إنجيل مرقس القديم و غيرهما.

في الجدول المُقابل مثال مُبسّط لأنواع المادّة في الأناجيل بحسب فرضيّة أسبقيّة مرقس، و هي كالتّالي: مادّة خاصّة بمتّى (ΜΤ)، مادّة خاصّة بمرقس (Mk)، مادّة خاصة بلوقا  (LK)، و مادّة مُشتركة بين متّى و لوقا (Q). في ضوء هذا المثال الإيضاحي نجِد أن أسبقيّة مرقس و وجود مصدَر مُنفصل للأقوال يُفسّران المعُطيات المُتاحة بأفضل ما يُمكن:

1- إن فرضنا أن بشارة متّى هي الأقدم فعلينا تفسير حذف مرقس لفقرات ΜΤ و Q  التي تتضمّن الميلاد العذراوي و أقوال يسوع بما في ذلك الكثير من الأمثال و الموعظة على الجبل و الصلاة الربّانيّة، و هو أمر يصعُب تفسيره. لذلك فالأرجح هو أسبقيّة مرقس و كونه مصدراً لمتّى و لوقا إستخدمه كلاهُما بمعزل عن الآخر.

2- إن فرضنا معرفة لوقا بنصّ متّى فعلينا أن نُفسِّر حذف لوقا للفقرات الخاصّة بمتّى ΜΤ و إبقاؤه على بعض مادّة الأقوال (مما أنتج فقرات ( Q . يُصبح هذا السُؤال أكثر تعقيداً حينما يُطبّق على إطار النّصوص نفسها، حيث نجِد لوقا مُعتمداً على مرقس بشكل مُباشر ولا يظهر في نصوصه أي تأثُّر مُباشر بتعديلات متّى لنصّ مرقس، و أيضاً في فقرات الأقوال تبدو قراءة لوقا أبسط من قراءة متّى في مناسبات كثيرة، لذا فالأرجح هو إعتماد متّى و لوقا على مصدرين بدون معرفة كلّ منهم بنصّ الآخَر.

فقرة إزائيّة مُقارنة (6)

تُظهر هذه الفقرة أن متّى يُكرّر أنّه لا مغفرة لمن جدّف على الروح (1 و 4)، و لا يبدو من الفقرة أن لوقا قد إعتمد على متّى، فإن إفترضنا إعتماده على متّى علينا أن نفترض أنه حذف 1 و 3 و 6 من متى و مرقس، فلماذا يُخالف لوقا مصدريه بهذا الشّكل؟. التّحليل الأفضل للفقرة يأتي من نظريّة المصدرين، مرقس كُتب أوّلاً و لكن تظهر الفقرة في Q أيضاً. قام متّى بدمج conflation قرائتي مرقس و Q ممّا سبّب التّكرار في 1 و 4، بينما فضّل لوقا قراءة Q على مرقس. أخيراً و بعدما إستخدم متّى قراءة مرقس و في التّحرير اللاحق لمرقس تمت إضافة 2 للنصّ. مما سبق يُمكن أن نُلخّص إستخدام متى و لوقا لمصدريهما بأن متّى عادةً ما يدمج مصادره إذا قدّما نفس المعلومة بينما يعتبر لوقا قراءة Q أسبق على قراءة مرقس، و في حالة إتّفاقهما يختار قراءة Q وحدها[12].

فقرة إزائيّة مُقارنة (7)

لاحِظ وجود التّجربة على الجبل في مرقس و لكن بدون تفاصيل متّى و لوقا. التّشابُه بين متّى و لوقا يُشير إلى وجود نصّ مُشترك إستخدمه كلاهُما، و إختتم متّى فقرته بعبارة مرقُس (لاحظ 13) بينما فضّل لوقا الإلتزام بمصدر الأقوال. من الوارد أيضاً أن نسأل عن مدى توافق نظرية المصدرين مع ما نعرفه عن الأدب القديم، و يُجيب Derrenbacker على هذا السؤال بمُقارنة إستخدام متّى و لوقا لمرقس و Q بكُتّاب سيرة الإسكندر الأكبر المقدوني. يقتبس Derrenbacker ما كتبه Arrian عن منهجيّته في تدوين سيرة الإسكندر: “أينما ذكر بطليموس بن لاجوس و أريستوبولوس بن أريستوبولوس نفس المعلومة عن الإسكندر بن فيليب فطريقتي هي تسجيل ما يقولاه كحقيقة، لكن متى إختلفا إختار النُسخة التي أراها أكثر أهلاً للثقة و أكثر إستحقاقاً للرّواية.”[13]

بالرّغم من أن المصدر Q يحتوي على مادّة مُعاد بناءها من متّى و لوقا، و بالتّالي لا يُضيف أقوالاً جديدة ليسوع، إلّا أن أهميّة المصدر تكمُن في كونه كوحدة واحدة يُمثّل نافذة على مُجتمع مسيحي أقدم من مُجتمع متّى و لوقا. الجدير بالذّكر أيضاً أن Q يضُمّ مجموعة أقوال حُرّة من السياق، ظهر بعضها موضوعاً في سياق مرقس (النّصوص المُشتركة بين مرقس و Q تُسمّى overlaps) و البعض الآخَر في سياق متّى و (أو) سياق لوقا. قارِن سياق متّى (15: 14) مع لوقا (6: 39)، في متّى قالها يسوع عن الفرّيسيين، و في لوقا جائت في سياق مُختلف تماماً كوصيّة للكمال، إتبع الكامل تكُن كاملاً و إتبع الأعمى تسقُط معه في حُفرة. ما حدث هنا هو أن متّى و لوقا وجدا قولاً و تبنّاه كلّ منهم في سياق مُختلف، و تُعتبر تِلك الأمثلة من المفاتيح المُهمّة في نقد إعتماد لوقا على متّى، فإن أخذ لوقا النصّ من متّى فلماذا يُسقط سياق النصّ في متّى و يُعيد وضع النصّ في سياق أخر؟. لتكون الصّورة أكثر وضوحاً، أنظُر المُقارنة التّالية بين النّصوص السّابق ذكرها و متّى (7: 1-5). يبدو أن لوقا إحتفظ بأقوال Q في نفس التّرتيب، بينما نقل متّى Q (6: 39) (يُشار لنصوص Q بترتيب لوقا) إلى متّى (15: 14)، و Q (6: 40) إلى متّى (10: 24-25). لذا فدراسة أقوال يسوع في ضوء نظرية المصدرين قد يفتح باباً لإعادة قراءة الأقوال في بشارتي متّى و لوقا لا كنصوص فسّرها يسوع بل كنصوص تناقلتها الجماعة الأولى كأقوال حكمة تمّ تقنينها لاحقاً بتضمينها في نصوص لتحديد معناها. تُتيح تِلك القراءة مجالاً أوسع للإلمام بطبيعة أقوال يسوع في المُجتمعات الأولى و كيفيّة تناقُلها و مُحاولات تفسيرها في سياق مرقس و متّى و لوقا و إنجيل توما وصولاً لكتابات الآباء الرّسوليين و حتّى إستقرار نصّ العهد الجديد.

فقرة إزائيّة مُقارنة (8)

مع بداية نظرية المصدرين إعترض الكثير من الدّارسين على فرضيّة Q لأن فرضيّة وجود نصوص بلا سياق في وثيقة وحدة لا تجِد دعماً في أنواع النّصوص الأدبيّة القديمة، و لكن جاء الدّعم مُمثّلاً في إنجيل توما ضمن مخطوطات نجع حمادي سنة 1945. إنجيل توما هو عبارة عن 114 قول بلا سياق قصصي، البعض منها في صورة حوار بين يسوع و التّلاميذ. بالرّغم من ظهور بعض العلامات الغنوسيّة اللاحقة على نصّ إنجيل توما إلّا أن الكثير من الدّارسين يرون أن بعض أقوال إنجيل توما تعكس مرحلة من Q أو على الأقل بعض أقوال يسوع في صورة قديمة رُبّما تسبِق البشائر الإزائيّة مرقس و متّى و لوقا.

فقرة إزائيّة مُقارنة (9)

نجِد في تِلك المُقارنة أن سياق القول في الأربعة أناجيل يختلف تماماً، في مرقس يلعب القول دوراً ختامياً لمثل الزّارع (مرقس 4: 3-20). حين يأتي ملكوت الله يُستعلن مَن من السّامعين كان لكلمة الله كالطّريق، و مَن كان لها كالحجر، و مَن كان شوكاً، و من كان أرضاً جيّدة تُثمر ثلاثين و ستّين و مئة. أمّا في متّى فالقول عن الإضطهاد، فعلى السّامعين أن يحتملوا الإضطهاد حتّى يأتي ملكوت الله و يُستعلن كل مكتوم و خفي و يعترف إبن الإنسان بمن إعترفوا به. في لوقا و توما 6 القول هو تحذير ضدّ الرّياء، أمّا في توما 5 فهي عن يسوع نفسه، فهؤلاء التّلاميذ متى عرفوا من هو أمام أعينهم صار لهم كل خفيّ مُعلن. بالرّغم من تشابُه توما 6 مع لوقا (12: 2) إلّا أن توما 5 تحتفظ بقراءة تختلف عن متّى و مرقس و لوقا كما يختلف المقصود بالعبارة في متّى و مرقس و لوقا أيضاً. تتطلّب دراسة إنجيل توما وقتاً أطول و لكن في حدود غرض تِلك الورقة يكفي أن نُظهر بدائيّة إستخدام إنجيل توما لبعض الأقوال بشكل لا يعكس إعتماد طبقاته الأولى على الأناجيل الإزائية.

مُلاحظات أخيرة:

1- مصدر الأقوال Q هو نظرية تتبع إستنتاج منطقي مبني على مُقارنة نصوص متّى و لوقا.

2- بالرّغم من كون Q هو نصّ نظريّ إلّا أنّه يشرح أغلب الفقرات المُشتركة بين متّى و لوقا و أيضاً بعض فقرات توما.

3- نصّ Q هو مجموعة من الأقوال التي إستخدمها متّى و لوقا كلٌّ على حدى.

4- إن وُجد قول في مرقس و Q عادة ما يدمج متّى مرقس و Q بينما يُفضّل لوقا قراءة Q.

5- يُشار إلى رقم فقرات Q بترقيم لوقا، مثلاً Q (6: 40) تعني لوقا (6: 40) و ما يوازيه في متّى. إستخدام ترقيم لوقا يرجِع لإتّفاق الدّارسين على إحتفاظ لوقا بترتيب أقرب لنصّ Q و كثيراً ما يحتفظ بقراءة أقرب له أيضاً.

6- من غير المُرجّح إستخدام لوقا لمتّى لعدم وجود مبرّر لحذفه لمادّة متّى التي يتفرّد بها، و من غير المنطقي أن نظُن أن لوقا قد إستخرج الأقوال من سياق متّى و أعادة تخليق سياق مُختلف ليها (راجع فقرة إزائيّة مُقارنة 8 و 9).

7- إكتشاف مخطوطات نجع حمادي و من قبلها برديّة إنجيل توما اليونانيّة Oxyrhynchus 655 المُكتشفة في منطقة البهنسا بمحافظة المنيا ما بين 1897 و 1904 تُثبت وجود نوع أدبي من النّصوص يحتوي على أقوال بلا سياق قصصي، مما جعل فرضيّة Q أكثر إحتماليّة.

8- تتّفق فرضية المصدرين مع ما نعرفه من المصادر القديمة عن طريقة تعاُمل المؤرّخين مع مصادرهم، كما شرح Arrian في كتابته لسيرة الإسكندري المقدوني.

9- مُقارنة نصوص متّى و لوقا تُظهر أن الكاتبين قد عدّلا قراءات مرقس و وضعا أقوال Q في سياقات مُختلفة تماماً.

المراجع:

[1] R. A. Derrenbacker, “Ancient compositional practices and the synoptic problem” (2005:51-52).

[2] Irenaeus, Against Heresies (3.3.4)                                                                  

[3] R. Bauckham, “Jesus and the Eyewitnesses”. Wm. B. Eerdmans Publishing (2006) E-book.

[4] Robert M. Grant, “Heresy and Criticism: The Search for Authenticity in Early Christian Literature” (1993:4).

[5] Koester, “Ancient Christian Gospels: Their history and development” (1990:365).

[6] B. H. Streeter, “The Four Gospels: A Study of the Origins” (1930:151-152), Macmillan.

[7] James D. G. Dunn, “Jesus Remembered” (2003:42), Eerdmans.

[8] Robert H. Stein, “Studying the Synoptic Gospels: Origin and interpretation” (2001:18), Baker Academic.

[9] R. K. Bultmann, “History of the Synoptic Tradition” (1963:213). Translated by Robert M. Grant. Harpers & Row Publishers.

[10] D. R. Burkett, “Rethinking the Gospel sources: From proto-Mark to Mark” (2004:135). New York: T & T Clark International.

[11] Ibid. (143)

[12] B. H. Streeter, “The Four Gospels: A Study of the Origins” (1930:187), Macmillan.

[13] R. A. Derrenbacker Jr, “Ancient Compositional Practices and the Synoptic Problem” (2001:56). PhD thesis submitted to Wycliffe College of Biblical Department of the Toronto School of Theology.

 

Similar Posts