الخبره الشخصيّه ودراسة التَّاريخ وفنون التفسير

في عباره منتشره جداً -خصوصاً في الأوساط الدينيّه- مفادها إن الدَّين (وأوقات بتمتد حتّى للعلوم والعلوم الإنسانيّه) هو خِبره شخصيّه مالهاش وسيله أو أدوات لدراستها. الكلام ده ممكن يكون صحيح بخصوص ال spirituality، لكن الدّين ظاهره أكبر وأكثر تعقيداً من ال spirituality. ظاهرة الدين بتمتد لقراءات للتاريخ وتفسيرات للنصوص ونظريات عن سير الطبيعه ومناهج أخلاقيّه، مينفعش كل ده يتم حصره في “الخبره الشخصيّه” أو “الذوق الشخصي” أو “وجهة النظر”. تعويم الأسئله لمساحة كل واحد بيمشي ورا قلبه وخلاص مش صحيح في حالة الأسئله اللي تتطلَّب منهجيَّات معرفيَّه. يعني مثلاً، مينفعش تدخل البورصه وتقضيها “إحساس”، هاتلبس في الحيط لا محاله. الموضوع محتاج دراسه، ومحتاج تكون فاهم بتعمل إيه وليه بترجَّح قرارك لأن الموضوع هايكون فيه خساره لو قرارك غلط.
نفس الكلام في العلوم، مش معنى عدم وجود يقين مطلق في الأدوات إن كل الأسئله هاتتحوَّل لمساحة “خبرتي الشخصيّه بتقول كذا”. أولاً موضوع الخبره الشخصيّه ده مالوش معنى واضح، اللي بيستخدم العباره بينفي عنها إنها “شعور” وبينفي عنها إنها “إجتهاد عقلي (نظري)” وبينفي عنها إنها “حَدس”، طب هي إيه؟ المشكله التانيه إن الأساس في العلوم بكل فروعها هو الحوار وال peer-reviewing، وبالتّالي عشان تناقش سؤال في التّاريخ بخصوص حدث ما إن كان حصل ولا لأ مثلاً، محتاج تتبنّى أدوات يقدر غيرك يستخدمها ويراجع مقدماتك ونتايجك، ولكن إحالتك للسؤال لمساحة إن “خبرتك الشخصيّه” معناه إنك بتقول مش عايز أتكلم في الموضوع ومفيش مجال إنك تفهم أنا وصلت للنتيجه إزاي ولا في مجال أثبت إني صح -ولو نسبياً- ولا في مجال تثبت إني غلط -ولو نسبياً. يعني من الآخر الإحاله لشيء لا يستطيع الآخر دراسته وفهمه هو غَلق لباب السؤال تماماً.
النقطه التانيه وهي فكرة الخبره الشخصيه في تفسير النصوص (وخاصّة الدينيه منها). هل من حَقّ الشخص إنه يمسك أي نصوص ويقراها بفهمه الخاص؟ حتى في الأدب السؤال ده فيه خِلاف. هل من حقّك كقارىء تمسك نصّ أنا كاتبه بيتناول قضيّه أخلاقيّه وتفهمه على إنه بيناقش قصّة حياة بيب جوارديولا؟ هل مفيش معيار للصّواب والخطأ في القراءه؟ في مدارس بتقولك أه، النص خرج من إيد الكاتب ومبقاش ملكيه للكاتب وبقا فقط ملكيه للقارىء يتفاعل معاها زي ما هو عايز (زي مثلاً Susan Sontag)، وفي مدرسه تانيه بتقول والله مش من حقّ أي حد يمسك نصّ ويفهمه بمزاجه لأن في كاتب وفي رساله بيحاول يوصلها، يعني في صوت ورا النصّ، مينفعش تفطّس الكاتب وتكتم صوته وتحوِّل القراءه لمجرد إن بتبص في مرايه وتشوف صورتك إنت وتسمع صوتك إنت وتقولي أصلي حرّ في القراءه (زي E. D. Hirsch). طب في النصّ الديني إيه الكلام؟ النصّ اللي النّاس بتحتكر بيه الحقيقه وبيصدرو بيه أحكام أخلاقيّه وتشريعيّه وبياخدو بيه مواقف تاريخيّه وأوقات كمان سياسيّه وقادر على تقنين أو إطلاق العُنف! هل ينفع النصّ ده يبقا مُتاح على المشاع بحيث كل فَرد يفسَّره ب “خبرته الشخصيّه” ويتحرَّك بيه في المُجتمع عادي؟ أعتقد لو عملنا كده ف إحنا بننتج قنابل موقوته ممكن تنفجر في أي لحظه لو الفرد قرر إنه بناءاً على النصّ مُسوَّغ في العُنف.
طب إيه الحل؟ الحل تاني هو الحوار. لازم سؤال المنهجيّه يُطرح بإستمرار. وزي ما بيُطرح على الأدب والتّاريخ كمباحث secular أو علمانيّه لازم يُطرح على النصّ الدّيني، والطَرح ده مش إختياري، بحيث ناس تشارك فيه وناس تقولك والله أنا عندي منهجيتي الخاصه وشغّال بيها مع نفسي وملكش دعوه. لأ، كل المنهجيات يجب نقدها ويجب طرحها لل peer-reviewing بحيث النقد المُستمرّ يخلي الكل واعي لأهميّه الأسئله، وحتى لو مكانش في إجابات موضوعيّه مُطلقه ف البحث هايفضل تهذيب للنفس وللجماعه، بحيث إن وقت ما تظهَر قراءه بتحاول تنفرد بالحقيقه أو تشرعن العُنف أو تُحاكم الباقي لأفكارها تلاها ١٠٠ ألف صوت بيسألهم وصلتو للنتيجه دي إزاي ويستحضر منهجية المُراجعه والتساؤل.
من غير ما ده يحصل ومن غير ما تفضل الأسئله تُطرح وطول ما الإجابات المُعلبَّه بتاعت “أنا خدت الفكره كده من اللي قبلي” أو “خبرتي الشخصيه كده” أو “حاسس” أو “عندي مصادري اللي متقدرش تدرسها بأدواتك” يبقا هايفضل كل تأويل وكل قراءه للماضي سلاح هايقدر أي حد يستحضره بالبلاغه ويحشِد بيه ويشكِّل في وعي الناس. وهاتفضل الناس مُجرَّد قطعان منها اللي بيُغرق في للإنعزال عن الواقِع ومنها اللي بيسعى بكل أدواته إنه يسيطر ويبتلع مُحيطه ويخنقه بقراءاته الأحاديّه.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *