الأخلاق وعلم المعرفة

هل المعرفة الأخلاقيَّة نظريَّة ولا ضروريَّة؟

خلينا الأول نفهم يعني إيه نظري وضروري، وبما إنها تعبيرات عربيَّه وتحديداً من علم الكلام خلينا نستعير الكلمات بتعريفاتها الأول من مؤلفين كتبو في المنطق بالعربي وبعد كده نشوف دارسي علم المعرفه في الغرب قالو إيه. خلينا الأول نقرا معنى العلم النظري والضروري من كتاب “المنطق” للشيخ محمّد رضا المظفّر، ص21-22.

العلم الضَّروري: “ويسمى أيضاً البديهي وهو ما لا يحتاج في حصوله إلى كسب ونظر وفكر، فيحصُل بالاضطرار وبالبداهة التي هي المُفاجأة والارتجال من دون توقف، كتصوُّرنا لمفهوم الوجود والعدم.”
العلم النَّظري: “وهو ما يحتاج حصوله إلى كسب ونظر وفكر، كتصورنا لحقيقة الرُّوح والكهرباء، وكتصديقنا بأن الأرض ساكنة أو متحركة حول نفسها وحول الشمس ويسمى أيضاً الكسبي.”

يعني بإختصار، العلم الضَّروري هو العلم اللي بيحصَل في نَفسك بدون مُقدمات ونتائج مَنطقيَّه، والعِلم النَّظري هو اللي بيحتاج إعمال للعَقل للوصول لنتيجه مُعيَّنه.

أقرب حاجه للمصطلحين دول في الإنجليزي هم inferential و non-inferential knowledge، الأولى مقصود بيها المعرفه اللي بتنشأ بالإستنتاج العقلي، والتانيه هي المعرفه اللي بتحس بحصولها جواك من غير ما تحتاج تعمل إستنتاج عقلي من مقدمات ونتائج.

خلينا نضيف للأربع كلمات دول كلمتين تاني في وصف المعرفه. العلم النظري والضروري ومقابلاتهم الإنجليزيّه بيوصفو كيفيّة حدوث المعرفه في الوعي (سواء بالإستدلال المنطقي أو البداهه)، لكن في مصطلحين تانيين بيعبّرو عن قابليّة التعبير عن المعرفه. في معرفه propositional (البعض بيترجمها ل “معرفة قضويَّة” يعني بتعتبَّر عن قضيَّه أو طَرح معرفي أو إدعاء قابل للبرهنه والنفي، زي “الماء بارد” ممكن يكون ده حقيقي أو لأ)، يعني تقدر تعبَّر عنها عبارات تنقل مقصودك للي بيسمعك، وفي معارف non-propositional (بتترجم إلى “معرفة غير قضويَّة” يعني مفيهاش قضيّه أو إدعاء، زي معرفتك بإستخدام المطرقه —المثال بتاع هايديجر— أو ركوب العجله ودي معرفه لا يُمكن صياغتها في عبارات لغويّه ولا تقبل البرهنه والنفي)، ودي مرتبطه بحاجات انت تقدر تعملها لكن متعرفش تصيغها في لغه، زي مثلاً إن تركب العجله، دي معرفه مينفعش تنقلها للشخص اللي بيسمعك من خلال اللغه. المصطلحين.

لحد هنا أبعاد المعرفه هي معرفه فيها إستخدام للمنطق ومعرفه مفيهاش، في معرفه يمكن التعبير عنها باللغه وفي معرفه لا يمكن التعبير عنها باللغه.

طب معرفتنا بالأخلاق تحتاج تفكير وتعقٌّل وإستنتاج ولا بنجدها في نفسنا زي معرفتنا بالجوع والشبع والخوف مثلاً، وهل يُمكن التَّعبير عن أحكامنا الأخلاقيَّه في صورة إستدلالات من مُقدِّمات ونتائج، ولا هي حاجه بنحِس بيها بدون القُدره على تناقُلها في صورة إستدلال لغوي منطقي؟

الأخلاق والمعرفه النظريه والضروريه (٢)

بعد ما خلصنا مرحلة التعريفات، خلينا ننكش في بعض الأمثله. الكل في سؤال الأخلاقي ما بين طرفي نقيض، إما في أخلاق موضوعيّه أو مفيش أخلاق موضوعيّه. يعني إما في معيار مُطلق نقيس عليه الصحّ والغلط والمعيار ده لا يختَل ولا يخضع للذوق البشري النسبي، أو إن مفيش معيار ثابت وكل محاولاتنا للكلام عن الأخلاق محصوره في صندوق خبراتنا وتراكم ثقافاتنا على شوية جينات ولغه.

خلينا كده ندردش في نقطه، دلوقتي العالم القديم كان مساحه واسعه للحروب والسَّبي وزواج الأطفال وقطع الطرُق وأبشع أنواع التعذيب، الحاجات دي كانت مرفوضه عند البعض ومقبوله عند البعض وبعضها كان مُشترك مُباح عند كل الشعوب وبعضها كانت تتفق أغلب الشعوب على رفضه مع وجود بعض إستثناءات (قارن مثلاً أخلاق الرومان مع شعوب تانيه في ال ٣ مراحل بتاعت الحرب Jus Ad Bellum و Jus In Bella و Jus Post Bellum أو فقه ما قبل الحرب وفقه أثناء الحرب وفقه ما بعد الحرب). لو قولنا إن الأخلاق هي شيء مبني في الإنسان بيعرفه الإنسان بعلم ضروري (لو تفتكر كان معناه معرفه بتحصل جواك بدون اللجوء للإستدلال المنطقي) يبقا ليه في شعوب تانيه وجماعات تانيه كان عندي الفظائع الأخلاقيّه سابقة الذكر؟ إيه اللي يخليها تحصل بعلم ضروري عند بعض الناس في العالم القديم وعندنا في القرن ٢١ ومتحصلش بعلم ضروري عند باقي الناس زمان؟

ولو فرضنا إنها بتحصل بعلم نظري، إيه هي مقدمات الإستدلال اللي بتخلّي فعل أخلاقي مُعيَّن فعل ذميم؟ يعني نبتدي منين عشان نوصل لحُكم أخلاقي في نقطة ما؟ خليني أحكيلك قصه صغيره. زمان من حوالي ٢٧٠٠ سنه كده، إنتشر نصّ منسوب لشاعر كفيف إسمه هوميروس، النصّ ده بدأ ينقله القصَّاصين أو ال rhapsodists وينشروه في كل المدن اللي بيروحوها. النصّ ده كان بيحكي عن البشر والآلهه، أعمالهم وحياتهم ودواخل نفسياتهم. والأخ هوميروس كان في كلامه عن الآلهه بيصوَّرهُم كبشر بيرتكبو كل الحماقات والنزوات والسقطات الأخلاقيّه البشريّه، الفرق كان إنهم كانو reckless and capable، يعني كأنهم بشر ذوي قدرات عظيمه وفي نفس الوقت متهورين للغايه.

لو جالك واحد دلوقتي —وده مثل إفتراضي مش متحقق حالياً بس ممكن نقيس عليه أمثله مشابهه— وقالك والله أنا الآلهه عندي بتُبيح كذا وكذا لأن الإلياذه والأوديسه قالو إن الآلهه نفسها بتعمل ده. وبالتّالي الراجل ده عايز يجيب منظور نصّ من ٢٧٠٠ سنه ويُعيد إحياء أخلاقيات الزمن ده في القرن ٢١ لأن عنده الخُلُق ده منسوب للآلهه والآلهه فوق المكان والزَّمن. هنا سؤال الأخلاق خد بُعد تاني خالص، ومش بس بُعد معرفي ده بُعد له عواقب كارثيّه على الحاضِر. ده مش بس واحد عايز يجادلك على مستوى المنطق ويتكل على الله يروح لحال سبيله، ده واحد ممكن يرتكب فظائع أخلاقيّه تضُرَّك وتضُر اللي حواليك لأن معاه تصريح بأخلاقيّه أفعاله.

دلوقتي الشخص ده إستخدم العلم النّظري، بدأ بمقدمات في صورة (١) الآلهه وأنصاف الآلهه والحُكماء عملو كذا، (٢) أنا مأمور بطاعة الآلهه والتشبُّه بأخلاق أنصاف الآلهه والحُكماء منهم، (٣) إذاً أنا مُسوَّغ في كذا. هنا بالرغم إن إستدلاله صحيح منطقياً، إلا إنه كارثه! ماهو مش معنى إنك عملت إستدلال منطقي سليم على مقدماتك يبقا من حقّك تقتل أو تسرق أو تسبي المُستضعفين اللي في منطقتك! المُشكله هنا إن الأخلاقي مبقاش يُقاس بمُجرَّد صلاحيِّته المنطقيّه. خصوصاً إن إستدلالك المنطقي هنا قاصر على مقدماتك انت، طيب يا سيدي أنا مختلف مع مقدماتك، مختلف مع الإلياذه والأوديسه بتوعك، مختلف مع أفعال الآلهه عندك، وبما إن عندنا أرضيات مختلفه أساساً في فهم المنطق ف الأخلاقي عندك ممكن ذميم ولا أخلاقي بالنسبالي. نحلها إزاي؟ انت عايز تعمل حاجات مبرره بالنسبالك وتجيبلنا وبال ومصايب من وحشية الماضي وتعيش بيها دلوقتي ومفيش داخلك أي رفض ليها عشان شايف إن في مصدر للأخلاق يتوافق مع الأفعال دي، وفي نفس الوقت أنا شايفك مؤذي ومُضر ومش من حقك تبهدل اللي حواليك عشان قناعاتك انت. نجيب الأخلاق منين؟

يعني كده الأخلاق المبنيه على علم ضروري non-inferential مستحيل تكون مشتركه عند كل البشر، واللي مبنيه على علم نظري inferential لا هي مشتركه عند البشر ولا هي آمنه للمجتمع لأن بمجرد ما واحد يعرف يقنِّن الجرايم الأخلاقيّه بإحكام منطقي ممكن يخرب مجتمعه كله. قدام الأسئله دي طلع عندنا محاولتين كبار للتنظير للأخلاق، كانط وهيوم .. هانرغي فيهم في الأجزاء اللي جايه.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *