أسرار خفية من قصر الجعفرية

يُعتَبَرُ قصر الجعفرية في اسبانيا القصر الإسلامي الأقصى شمالا في العالم. إذا ماكانت هناك ثلاثية معمارية مكملة لثنائية قصر الحمراء بغرناطة وجامع قرطبة فلابد أنها ستكون قصر الجعفرية بسرقسطة. إنه أهم بناء مدني من القرن الحادي عشر في الغرب الإسلامي وأفضل مثال محفوظ من عصر أندلس ملوك الطوائف. يَشْتَقُ قصر الجعفرية تسميته من اسم حاكم طائفة سرقسطة في عهد ملوك الطوائف، أبو جعفر أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله (1046ـ1081م)، الذي أمر ببنائه في القرن الحادي عشر. بعد استيلاء ملك أراغون ألفونسو الأول الملقب بالمحارب على سرقسطة عام 1118م، أصبح القصر مقرًا لملوك أراغون ثم مقاما للملكان الكاثوليكيان ولمحاكم التفتيش الإسبانية. عرف القصر سلسلة من التحولات الإنشائية المختلفة على مر العصور إلى أن أضحى اليوم عنصرا مركبا من مجموعات معمارية متنوعة متباينة.

تُحيط بالقصر هالة من الأسرار والغرائب والنوادر والأساطير التي تكوَّنَت في مُختلف مراحل تشييده وتعميره. يعكس القصر اليوم مزيجا من البصمات الثقافية المختلفة والمتمايزة التي خَطَّها ملوك وعلماء وجُنود وسجناء… يعكس كل ركن من أركانه حكايا وقصص مُثيرة تقطع للماضي وللتاريخ تذكرة.

برج الجعفرية: من مرصد فلكي إلى سجن لمحاكم التفتيش

قاد أبو جعفر المقتدر بالله،  مُشَيِّد قصر الجعفرية، طائفة سرقسطة إلى ذروتها السياسية وأوجها المعرفي نظرًا لاحتضانه لأهل الفِقه ورعايته للعلوم وحمايته للفلسفة والفنون. ولم تُنافِسها في حمل مِشعل الثقافة في ذلك الوقت سوى طائفة اشبيلية. كان أبو جعفر المقتدر بالله حكيماً ومثقفًا وصَبّاً مُستهاما بعلم الفلك. لذلك لم يستبعد المؤرخون أن يكون “برج التروبادور” بقصر الجعفرية مرصدا فلكيا في عهده.

“وكان المقتدر بالله بن هود أمير سرقسطة قد تعاطى علم الفلك، وقد وصفه ابن حزم القرطبي بقوله: (وهل لكم في علم النجوم ملك كالمقتدر فأنه كان في ذلك آية). وكذلك الأمير المؤتمن بن المقتدر بن هود الذي ألف كتاب (الاستكمال في الفلك). وقد درسه موسى بن ميمون ووضع له شرحا، وقال انه جدير بأن يدرس بنفس العناية التي تدرس بها كتابات اقليدس وكتاب المجسطي لبطليموس” (1) 

 ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها ومن أشهرهم المقتدر بالله وابنه يوسف المؤتمن وكان المؤتمن قائما على العلوم الرياضية وله فيها تآليف ومنها كتاب الاستكمال والمناظر وولي بعده ابنه المستعين” (2)

 


برج التروبادور بقصر الجعفرية

 

يستطيع زائر قصر الجعفرية اليوم تأمل خطوط ونقوش ووسوم صُوِّرَت على جدران برج “التروبادور”. تعود هذه التدوينات الدقيقة والرقوش الضامرة الرقيقة لسجناء حُبِسوا في البرج بعد أن تحوَّلَ إلى سجن. يُعتبر برج “التروبادور” أقدم بناء في قصر الجعفرية. يقع في جانبه الأيمن. كان بمثابة برج مراقبة دفاعي، وتبنَّى موازاةً مهمة المرصد الفلكي. تحوَّل البرج إلى سجن ومعتقل في عهد الملكان الكاثوليكيان سنة 1485م. اتُّخِذَ قصر الجعفرية في تلك الفترة كمقام ومُستَقَر لمحاكم التفتيش وأصبح برج “التروبادور” سجنا للمقر، واستمر الأمر على هذا الحال طوال مائتي عام.

خلَّدَ السجناء ذكراهم بتوقيعات ورسومات لازالت ظاهرة ماثِلة جَلِيَّةً إلى يومنا هذا على جدران البرج: مئات السلاسل الزمنية لعد الشهور والأيام واحتساب الفائت من الأعمار، رسوم كاريكاتورية لوجوه قبيحة دَميمة مشوهة يُعتَقَدُ أنها تُصَوِّرُ غِلظة وجهامة السجَّانين، رسمة لمعركة سهام بين قلعتين، آثار نقوش لسفن بحرية مُصوَّرَة بدقة مُحكَمة ومهارة عالية، وقَطْعٍ محوري شارح لعناصر السفينة ومُفسِّر لتفاصيلها ومُوضِّح لدواخلها بإجادة واحترافية وإتقان. تدل هذه البراعة في نسخ السفن على أن مؤلفيها كانوا على الأرجح سجناء خبراء في البحرية. مثيرة للانتباه بعض النقوش المُصَوِّرَة لألواح لعبٍ للتسلية والتي لايُعرَفُ على وجه التحديد هل هي لمساجين أم تعود لسَجَّانين قضوا وقت حراستهم ومراقبتهم للسجناء في اللعب. بالإضافة للرسوم هناك تدوينات تعريفية ذاتية خَطَّها السجناء لتخليد ذكراهم على الحيطان كسجين يُدعى “ميغيل كولاس” دَوَّن اسمه وأصله كمُنتَسِبٍ لبلدة “أمبيل”، وهي بلدة متواجدة بالقرب من سرقسطة، وذَكَرَ أنه في ذلك العام الذي وافق سنة 1609م كان شابا يبلغ من العمر 22 عامًا. ومن بين التوقيعات، يبرز أيضا توقيع يعود لجراح إنجليزي سجين يُدعى ج. بولد.

رسومات ونقوش تعود لسجناء برج التروبادور بقصر الجعفرية (3) (4)

 

خُطَّت معظم النقوش والرسومات في أماكن خفية مُستترة أو مُضمرة نسبيا للاحتجاب والتخفي عن أعين الرقابة. سُطِرَت بشكل أساسي على الجير، بينما ندرت وقلَّت على الواجهات الحجرية الصلبة. تظهر العديد من الآثار المتبقية على المادة الجيرية سوداء جزئيًا، الأمر الذي قد يحيل على تزود منجزي الرسومات بنور الشمع لتسهيل الرؤية أثناء الرسم.  ربما كانوا يخطُّون نقوشاتهم ليلا حتى لا يتمكن أحد من رؤيتهم، أو في مناطق مظلمة ضعيفة الإضاءة. إن تأمل النقوش والرسومات وتفاصيلها الدقيقة من أزياء وقوارب وغيرها يدل على أن معظمها يعود إلى القرن السابع عشر، وإن كانت هناك رسومات أخرى أقل عددا، ترجع لفترات زمنية أقد.

تعود تسمية البرج الحالية “التروبادور” للقرن التاسع عشر، وهي تسمية مقتبسة عن دراما فروسية رومانسية تدعى “التروبادور” تدور أحداثها في قصر الجعفرية ويعود تأليفها للكاتب المسرحي الإسباني أنطونيو غارسيا غوتيريز (1813 – 1884م). قام المؤلف الموسيقي الايطالي جوزيبي فيردي (1813 – 1901) بتحويلها إلى عمل أوبرالي حمل نفس الاسم “التروبادور” في عام 1853م. يُعتقَدُ أن كلمة «تروبادور» أو «طروبادور» تعود في أصلها لكلمتي «طرب» و«دور» كنايةً على عزف الموسيقى والتنقل بين القصور، إذ تُطلق على «مطربين» كانوا «يدورون» من قصر لآخر. ويُعتبر التروبادور شاعرًا وموسيقيًا من القرون الوسطى. عاش في الجنوب الشرقي لفرنسا وسرقسطة في مملكة أراغون والضواحي. وهناك من يحيل مصطلح «تروبادور» أو «طروبادور» إلى أصل لاتيني، باعتبار أن كلمة «تروبادور» اقتباس لغوي عن الفعل البروفنسالي «trobar»، المأخوذ بدوره من الكلمة اللاتينية «trope» بمعنى أغنية. والبروفنسالية هي لهجة من الأوكسيتانية تعود لبروفنس (منطقة في جنوب شرق فرنسا).

غرفة ذهبية بجدران لامعة

أمر حاكم سرقسطة الملك أبو جعفر أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله (1046ـ1081م) بتشييد قصر الجعفرية في  القرن الحادي عشر. أطلق عليه اسم “قصر السرور”. كما سَمَّى قاعة العرش التي استقبل فيها أعيان الممالك الأخرى “مجلس الذهب” وقد خلَّدَ هذه التسميات في شعره حين قال:

قصر السرور ومجلس الذهب … بكما بلغت نهاية الأرب )

لو لم يحز ملكي خلافكما … كانت لدي كفاية الطلب )


مجلس الذهب

بعد سقوط سرقسطة سنة 1118م، عرف قصر الجعفرية إضافات معمارية متباينة وتغييرات متعددة وعمليات هدم وإصلاح وتوسيع غيَّرَت ملامح القصر الأندلسي الأَّوَّلي. تقع الآثار الإسلامية الباقية من قصر الجعفرية الأصلي بالواجهة الشمالية، تضم بقايا من مجلس الذهب، وآثار مسجد خاص مثمن الأضلاع صغير المساحة خُصِّصَ للملك وحاشيته يقع في الطرف الشرقي من رواق مدخل مجلس الذهب ومحراب في الزاوية الجنوبية الشرقية، يشير لاتجاه مكة (القبلة).


باب مسجد قصر الجعفرية

تمتعت قاعة العرش بخاصية ولوج ثلاثي. تسمَّت قديما بمجلس الذهب نسبة للمعان الذهب وبريقه وتوقُّدِه. تزيَّنَت جدران مجلس الذهب الأندلسي الأصلي بالجعفرية بتدرجات وظلال مجموعة من الألوان (على وجه التحديد: الأصفر والأحمر والأخضر). كان انعكاس ضياء الشمس وإشراق نورها وتسرب أشعتها للمجلس كفيل بجعل الحيطان تلمع وتتلألأ وتتوهَّج مما يجعل المجلس يبدو وكأنه من ذهب.

فَقَدَ المجلس جانبه الغربي ومعظم ألواح الزينة الجبسية التوريقية التي غطت الجدران، كما أضاع أرضياته الرخامية الأصلية البيضاء. كان يعكس صورة دلالية للكون. رَمزت زينة أسقفه الخشبية للسماء. جسَّدَ القوة التي مارسها ملك سرقسطة كحاكم وعارف بالكون السماوي ومالك لمفاتيح معرفة الفَلَك.

هكذا فك الملكان الكاثوليكيان العُقدة!  

تزيَّنَت مرافق الملكان الكاثوليكيان في قصر الجعفرية بأسقف ذهبية وزخرفات ملكية الرمز والدلالة وبعبارة: “Tanto monta”.

 تشير العبارة إلى أسطورة العقدة الغوردية. تحكي الأسطورة قصة عقدة شديدة الاختلاط والتشابك والتداخل تواجدت في سالف العصر أمام معبد غورديو، قيل أن الشخص الذي سيفكها سيصبح سيد آسيا. وذلك ماحدث بالفعل، ولكن دون الحاجة للدخول في متاهة ومعضلة فك عقدة شديدة الالتواء والتعقيد والتشابك وإنما تم اللجوء ببساطة لقطعها بالسيف. تتوجت الأسطورة بعبارة “Tanto monta”

والتي تأتي بمعنى كلاهما ملائم أو كلاهما متشابه، فك العقدة أو قطعها. ويستخدم التعبير عادة للدلالة على أن هناك عوائق وعراقيل ومشاكل قد يبدو حلها صعبا بينما في واقع الأمر قد يكون كل ماتحتاجه هو البتر بالسيف، عمل مقدام جرىء وتدخل حاسم فاصِل قاطع. اعتقد الملك فرناندو أن هذه العبارة تنسجم مع فلسفته في الحكم فأخذ يتيمن بها طوال حياته. ولم ترتبط به وحده وإنما أيضا بزوجته إيزابيلا.


عبارة “Tanto Monta” في قصر الجعفرية

الأسود كحيوانات أليفة

إن وجود أسود بقصر الجعفرية كعناصر رِفقة مُفَخَّمة مَهيبة لأمر موثق منذ القرن الرابع عشر. هناك وثائق يطالب فيها العديد من الملوك بالإتيان بأَسَدٍ جديد كحيوان رفقة وصحبة بعد موت أسدهم الحالي. مُنِحَت الأسود أيضا كهدايا وعطايا بين الملوك وأصحاب السلطة. شُيِّدَت الخنادق المُحيطة بقصر الجعفرية في عام 1593م عند اتخاذ القصر كقلعة ثم ثكنة عسكرية. في ذلك الوقت، تم تشييد جسور متحركة لتسهيل المرور عبر هذه الخنادق العميقة التي خُصصت أيضا كمحل إقامة للأسود.

تقول أسطورة شعبية إسبانية أن روح نهر إبرة (الإيبرو)  تجسدت في هيئة انسان ذات مساء لنبيل عربي مهاجر دون مأوى، سألته عن رغباته فأجابها أنه بحاجة لبيت يأويه فأهدته قصرا بديعا. واستيقظت ساكنة سرقسطة في اليوم الموالي على منظر قصر مهيب فخم جليل شُيِّدَ بين عشية وضحاها للنبيل العربي… وكان هذا القصر هو قصر الجعفرية!

نهر إبرة (الإيبرو) سرقسطة

مراجع:

(1) “الأنوار الحضارية من القطوف الأندلسية اليانعة” محمد بشير حسن راضي العامري. ص 81.

(2) “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” أحمد بن محمد المقري التلمساني. تحقيق: د.إحسان عباس. دار صادر – 1968. (الجزء الأول، ص441)

(3) Si las paredes de la Aljafería hablasen. MANUEL MORALES. Zaragoza – 24 JUN 2018 –  El pais.

(4) « LA ALJAFERÍA (ZARAGOZA) Torre del Trovador » .José Antonio Tolosa . ARTE MUDÉJAR EN LA CIUDAD DE ZARAGOZA.

(5) Curiosidades y secretos del Palacio de la Aljafería. 13 AGO 2021. Gran casa

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *