الوَجه المُظلم للأخلاق
MA in Applied Linguistics and TESOL, Portsmouth University, United Kingdom. His current research areas are Critical Discourse Analysis, Gender Relations, Religious Literature, and Hermeneutics
الوَجه المُظلم للأخلاق!
*** تحذير: لو بتاخد كل حاجه على صدرك متقراش ***
_
الأخلاق حلوه .. الأخلاق كلمه لما بتسمعها بتفكر في دلالات كويسه زي الأدب والذوق والكرم والإحتشام وبِرّ الوالدين. لحد هنا كلام سليم، وناس كتير قالتهولك وانت قولته لناس كتير. هنا أنا مش جي أكلمك في اللي كلنا نعرفه عن الأخلاق ولكن في الجُزء اللي كلنا بنختار منبصش عليه عشان منظومة الأخلاق تمشي .. هاكلمك عن جانِب من صفقة الأخلاق اللي كلنا بنتفق عليه ولكن لا ممنوع نتكلم فيه، مطلوب منك توافق عليه وتنساه عشان لو ركِّزت عليه المنظومه هاتبقا صعبه عليك.
_
خلينا الأول نعرَّف الأخلاق، بس مش بتعريف كيوت زي اللي قريته في أول سطر ده. بحسب المُعجم الوسيط “الخُلُق: حالّ للنفْس رَاسِخَةٌ تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّةٍ”. يعني نتايج الأخلاق مش مُجرَّد شوية أفعال خيِّرَه، الأخلاق ممكن تنتج الشَرّ. لكن تعريف المُعجم الوسيط قديم شويه، هنا هو قال إن الأخلاق حاله نفسه راسخه في الفَرد وهي اللي بتنتِج الأفعال، بس ده تعريف ناقص، تعالى نبص على تعريفات القواميس الإنجليزيه ونشوف عندهم حاجه أكثر دِقَّه ولا لأ.
_
بحسب قاموس Merriam Webster الأخلاق هي مجموعه من المبادئ بتحكم تصرُّفات الفرد والمُجتمع، أو نظريه أو نظام من خلاله بتتحدِّد القِيَم اللي بيتحرك بيها الفرد، أو توافُق بيأسس مجموعه من الأكواد اللي بتحدد ما يُعتبر صواب وما يُعتبر خطأ. التعريف ده أفضل من تعريف المُعجم الوسيط لأنه بيورينا البُعد الإجتماعي لظاهرة الاخلاق. قاموس Cambridge بيقول إن الأخلاق هي المعايير اللي بناءاً عليها بيتقيِّم السلوك لصح وغلط.
_
من اللي فات ده كله خلينا نصيغ تعريف يجمَع كل الحاجات دي مع بعض بشكل مُتَّسِق. الأخلاق هي بناء مُجتمعي بيتوافق عليه الناس بإعتبارها بِنيه أو كود بيقدر الفرد والمجموعه يقيِّموا بيه السلوك وبينتُج عن البِنيه أو الكود ده سلوك الفرد والمجموعه لأنهم من خلال الكود ده هايميلو الى إنهم يعملو اللي شايفينه صَحّ ويتجنَّبو اللي شايفينه غلط. التمييز بين المُستوى الفردي والجماعي مُهم لأن مش كل شئ بيقتنع بيه الفرد بيمارسه كجُزء من جماعه ومش كل شئ يحِل للجماعه يحِل للفرد. في خِطاب بيرجَع لأغسطس 1963 بيتسمَّى خطاب من سِجن برمنجهام Letter from Birmingham Jail بيقول مارتن لوثر كينج جونيور إن الجموع أكثر لا أخلاقيه من الأفراد -هو هنا بيردد عبارة اللاهوتي الأمريكي رينولد نيبور والباحِث في مجال الأخلاق- عشان يحذَّر الناس من الإنفعال بفكرة العُنف في أثناء مطالبتهم بحقوقهم. ف بيقولهم ما معناه لما تدافعو عن حقوقكو لازم تكونو مدركين إن وجودكو في مجموعه بيعرضكو للإنحدار لأفعال لا أخلاقيه.
_
التفسير اللي أعتقد إنه صح للموضوع هو إننا بنفكَّر في الجُرم بإعتباره شئ مادي بيتقسِّم لأجزاء أصغر. ف لما حد بيعمل جُرم لوحده بيتحمله بالكامل ولكن لما بيكون الجُرم جماعي كل واحد بيتصوَّر إن ذنبه أقل لأن الجُرم متقسِّم على عدد كبير وبالتَّالي بيكون أكثر تهاوناً في إرتكابه. ف الشخص اللي الكود الأخلاقي بتاعه بيمنعه يقتل ممكن يشارك بضربه واحده تُفضي إلى موت لو كان وسط مجموعه. والشخص اللي في الظروف الطبيعيه مش هايسرق لو إتحط وسط ألف شخص بيسرقو مول تجاري ممكن يعمل نفس اللي بتعمله المجموعه ويبرر ده لنفسه بأي تبرير يُعلى من دوافِع المجموعه اللي سرقت تجاه اللي محلّاتهم إتسرقت، زي مثلاً إنهم رأسماليين وأساساً سارقين حقوق الشعب وإحنا خدنا حقنا منهم وكأن الشعب كله يتمثَّل في الألف اللي إقتحمو المول.
_
يعني لحد دلوقتي شوفنا إن الأخلاق مش شئ إيجابي في المُطلق. الأخلاق مش شئ ثابت وقد يختلف بحسب معايير كل جماعه، وكمان قد يختلف ما بين نفس الجماعه وما بين إفرادها، ف على المُستوى الفردي يكون في شئ مرفوض لكن الجماعه تطوَّر موقف أيديولوجي يبرَّر ويسمح بما قد يتعفَّف عنه الأفراد.
_
الجانِب الإجتماعي للأخلاق يهمني أكتر في البوست ده من الجانِب الفردي النفسي. الكود اللي الناس بتتوافق عليه ده مش مُجرَّد مجموعة أفكار، ولكنه أفكار وأفعال وتراتُبيَّه hierarchy بيتحدد بناءاً عليها مكانة الشخص الإجتماعيه والإقتصاديه والسياسيه. ف مثلاً الشخص اللي بيتوصِم بحاجه لا أخلاقيه بيتعامل معاه المُجتمع بإعتباره منبوذ -إلا لو كان عنده نفوذ يخلي النبذ المُجتمعي ميطولوش- وبالتَّالي ف الفرد قدامه حاجه من إتنين، إما يواجِه المُجتمع بإنه يمشي بالكود الفردي الخاص بيه أو إنه يكون عنده أكتر من كود أخلاقي يستخدم واحد في السياق الجماعي وواحد في السياق الفردي عشان يتَّقي شَر الأذى الجمعي. يعني الأخلاق في حد ذاتها هي آداة قوَّه، زيَّها زي رأس المال، زيَّها زي النفوذ، وزيَّها زي التأثير بالخطابه … تخيَّل إني في البوست ده بمارس عليك قوَّه بمحاولتي لإظهار فكرتي بإعتبارها أكثر منطقيَّه وترتيباً عشان انت كمان تقتنع بالفكره وتنشرها. كل دي علاقات قوَّه، حتى لو تم تغليفها في غُلاف خيِّر أو حتى لو كان الدافِع وراها خيِّر فعلاً ف شئت أم أبيت كل شئ بتعمله بيخلق هيراركيَّة قوَّه وليها تأثير.
_
الأخلاق مبتبقاش موجوده في الهوا كده، دي بتلتصق بمنظومات تانيه تتفاوت في القوَّه والتأثير. ف مثلاً الأخلاق متغلغله في المُعاملات التُجاريه، ومُتغلغله في الجوانِب الإجتماعيه الخاصه بالزواج، وطبعاً طبعاً في الظاهره الأكثر نفوذاً في الشرق الأوسط وهي الدِّين. تقولي مثلاً الدين هو اللي بيحدد الأخلاق، أقولك حقيقي ولكن ده جُزء من الصُّوره، الصُّوره الأكبر إن الأخلاق بردو بتحدد الدِّين! دلوقتي انت رفعت حاجبك (أو الإتنين، وإحتمال بعض الشتيمه كمان)، ف خليني أضرب مثال قبل ما تكمل شتيمه. هل تعلم يا عزيزي الدوق إن العبوديه مثلاً لم يتم تحريمها في الأديان الإبراهيميه التلاته؟ وهل تعلم عزيزي الدوق إن مقاومة العبوديه تطوَّرت كإمتداد لمنظومه أخلاقيه فيها عوامل من ضمنها العامل الديني ولكنه ليس المُحرِّك الوحيد؟ شايفك .. رفعت حاجبك تاني وهاتقولي إيه يا عم الكلام اللي عكس بعضه ده!!.
_
إمشي معايا واحده واحده .. اليهوديه مثلاً فيها تشريعات للعبوديه، وإمتا الواحد يُستعبد وإمتا يُطلَق وإمتا تنتهي عبوديته لو تعرَّض لأذى بدني، لكن مفيهاش نَصّ بيقولك العبوديه ملغيه وكل البشر أحرار. المسيحيه جت في السِّياق الروماني، وقدِّمت مُساواه روحيه ما بين الساده والعبيد وجمعتهم على مائدة إفخارستيا واحده، لكن مأعلنتش إن الهيراركيه الإجتماعيه إتلغت، ولكنها أعلنت إن الكل مُتساوى لما يصطبِغ -يتعمِّد- بالمسيح. في نفس الوقت، النصوص الدينيه المسيحيه واليهوديه (العهدين يعني) تم إستحضارهم بإستمرار في المُناقشات الخاصه بتحرير العبيد، ولكن المُنطلق مش إن النصّ ألغى العبوديه ولكن من مُنطلق إننا المفروض نتحرَّك خطوه تجاه أخلاق أكثر كمالاً، يعني مثلاً، نفس النصّ اللي محرَّمش العبوديَّه إتكلِّم عن مساوئ العبوديه وأد إيه هي خبره بغيضه ومُرَّه، وبالتَّالي إن كانت خِبره بغيضه ف مينفعش نفرضها على إخواتنا اللي من نفس البلد. من هنا بقا في إتِّجاه لتطوير فكره موجوده في النصّ الديني عشان يتقنِع بها المؤمنين بالنصّ الديني حتى لو كان لا يوجَد عليها نص صريح في النصّ الديني. كل ده حصل جوا ديناميكيه أكبر وهي الدوله. بقا في قوَّه تانيه إسمها قوه المواطنه، وبقا النصّ الديني بيتفسَّر عشان يخليها أقوى. وبعد كده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان خلَّى إحترام الإنسان قيمه عُليا قدر العالم يضغط بيها على دول كتير كان فيها عبوديه عشان تلغي المُمارسه دي، بس مش هاقولك أسماء الدول عشان متتخضش، هاسيبك تدورَّ لوحدك، مش كل حاجه هاقولهالك وأتشتم أنا.
_
يعني في صراع منظومات وأكواد أخلاقيه كتير؟ بالظبط، كده بدأت الفكره توصلك. الاخلاق مش حاجه واحده، الأخلاق إتِّفاق جماعي، وبالتَّالي لو في جماعه تانيه توافقت على فِعل بإعتباره فِعل أخلاقي هايمارسوه وهايمتنعو عن عكسه. ولازم تاخد بالك بردو من النقطه اللي قولتلهالك فوق، إن من الخطر إنك ترسم علاقات سببيه بين المنظومات دي بإعتبار إن بعضها بيأثر في البعض التاني بعلاقات من إتجاه واحد، من نوعية الدين بيشكِّل الاخلاق والمُجتمع بين الأخلاق والمُجتمع مش بيشكلو الدين. أعتقد لو بصيت على تاريخ الأفكار في العالم ف هاتلاقي حاجات تفاجئك في الموضوع ده.
_
طيب، لحد هنا شوفنا إن الأخلاق -سواء كان ده مُريح بالنسبالك أو لأ- هي حلقه في منظومة القوه. الجماعه بتحُط كود معين وعلى المُنتمين ليها الإلتزام بيه. وبالتالي علاقتك بالجماعه ممكن تتأثر لو رفضت تلتزم بالكود اللي الجماعه بتحطهولك، ولذلك أوقات بتضطر تتماهى عشان ميتمش نبذك ورفضك. هنا نيجي لمُشكله بنعاني منها في مُجتمعنا المصري وهي مُشكلة الحُريات الشخصيه. بعض السياقات التاريخيه والإجتماعيه والدينيه أنتجت نمط من الاخلاق بيسمح وبيحُض الإنسان على التدخُّل في حياة وخصوصيات غيره تحت كليشيات زي النصيحه والخير المُشترك والحُب والإهتمام والأخوه والعائله والإلتزام وما إلى ذلك من سلسله مالهاش آخر. الحقيقه إن هنا الأخلاق بتتحول من ما هو صح أو غلط بحسب تعريف الجماعه إلى آداه كل فرد بيسخدمها عشان يقتحم مساحات مش هايعرف يقتحمها من غير ما يرفع راية الأخلاق. الأخلاق حلوه لأنها بتنظَّم مُعاملات الناس، ولكنها في نفس الوقت بتُستخدم لمنح طرف سُلطه على الآخر.
_
تخيَّل الموضوع كأنه طبخه، كل ما يزيد واحد من المقادير الطبخه تتغير. لو الطبخه زادت فيها الحريه هايقل فيها الكود اللي بيخلي الناس شبه بعض. ولو زاد فيها التنسيق وتوافق السلوك والخطاب هايقل فيها التنوُّع والحُريه والإبداع. الطبخه دي عمرها ما هاتظبط بحيث إنها تعجب الكل. ولازم تتفهَّم إن الطبخه دي مش بتاعتك لوحدك، وإن مالهاش كتالوج يخلي طبختك صح وطبخة غيرك غلط. لكن ممكن تقول إن مجموعه من الأفراد بتحب الطبخه بطريقه معينه ومجموعه تانيه عايزه الطبخه بردو بس بمقادير مُختلفه. المهم هنا إن مفيش طرف يقرر يأكل الناس كلها نفس الطبخه على مزاجه ظنَّاً منه إنه هايجبرهم على مصلحتهم أو ظنَّاً منه إنه موكَّل على الكل لإصلاحهم. الضابط الوحيد اللي لازم يجبِر الكُل على الإلتزام بيه هو القانون اللي بينظَّم حقوق المُواطنه، أي شئ لا يُخالف قانون المواطنه اللي بتمثله سيادة الدوله هو كود قابل للتنوع والتفاوُض والحُريَّات الشخصيَّه.