ذكرى ثورة يوليو: أسئلة لويس عوض الحائرة بين الجمهوريتين
Mina Monier
An Egyptian British scholar of the New Testament and Early Christianity. He earned his PhD from King’s College London in the New Testament. He is a Senior Researcher (Seniorforsker) at the MF Norwegian School of Theology, in Oslo
تحل علينا ذكرى ثورة الثالث والعشرين من يوليو ونحن نشهد مصرَ على مفرق طرق، حيث أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي قيام ما أسماه بالجمهورية الثانية أو الجديدة، والتي ستكون لها عاصمة جديدة أيضاً. أعلن الرئيس أيضاً الخطوط العريضة للجمهورية الجديدة، فهي جمهورية مدنية مبنية على أساس الديمقراطية والمواطنة. ذلك الإعلان العام في خطوطه العريضة هو ما يجعلنا نشعر بأهمية تلك المرحلة الفاصلة التي نحن بصددها، فالمطلوب من المجتمع ككل وليس فقط سلطات الدولة تحديد تفاصيل تلك الدولة وترجمة خطوطها العريضة لواقع ملموس.
ولكن كيف؟ أعتقد أن الأمر يبدأ من فهم موقع تلك الجمهورية الجديدة من التاريخ. بطبيعةِ الحال، فإن إعلان الجمهورية الثانية يعني قيام كيان يختلف عن الجمهورية الأولى، والتي قامت بموجب الإعلان الدستوري الصادر عن مجلس قيادة الثورة في الثامن عشر من يونيو 1953. فأين تقع تلك الجمهورية من سابقتها؟ طبيعة العلاقة بين الجمهوريتين هي نقطة الإنطلاق الحقيقية نحو تأسيس سليم وراسخ لمفهوم الجمهورية الجديدة. إلا أننا للأسف لم ننجح أصلاً في إدراك وتقييم جمهورية يوليو بعد.
فاليوم نرى استقطاباً عنيفاً بين معسكرين: الأول هو المعسكر الآخذ في الأفول لضعف موارده، وهو الذي يمجد رجال تلك الجمهورية، وعلى رأسها بالطبع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، تمجيداً بلغ حد التأليه. والمعسكر الآخر الذي اجتمع فيه الشتيتان: الإخوان ومن يدّعون كذباً محاربتهم للإخوان من ممالك عربية تصفي حسابات قديمة مع عبد الناصر من خلال آلاتها الإعلامية السخية. ذلك المعسكر الذي وصفه وحيد حامد في فيلم طيور الظلام على لسان فتحي نوفل المحامي (عادل إمام) بمعسكر “الرز بلبن.”
في هذا الوضع الهستيري يستحيل فهم تلك التجربة، وبالتالي البناء على ما بعدها. هذا يعود بنا إلى المربع الأول الذي وقف عنده المفكر لويس عوض وعبر عنه في كتابه أقنعة الناصرية السبعة. وجد عوض نفسه وسط هذا الاستقطاب الهستيري إلا أنه عزاه إلى كون جمهورية يوليو كانت تاريخاً قريباً وأن جيله لا يستطيع أن يحكم بموضوعية لأنه على مقربة منه. وبالتالي كان رجاؤه أن يأتي جيل في مرحلةٍ تالية قادر على تقييم التجربة بشكلٍ موضوعي. إلا أن التردي الثقافي الجمعي الذي نعيشه اليوم يجعل تحقيق أمنية عوض صعباً.
والحقيقة قد يكون الأمر واقعياً معكوساً، فرفض عوض للتحولات المتشنجة في مواقف مفكري جيله، لا يعني بالضرورة أن رؤية معاصري التجربة أقل مصداقية ممن يفكرون من موقع بعيد تاريخياً.
بينما انتقل توفيق الحكيم بين المعسكرين من عودة الروح إلى عودة الوعي براديكالية عاطفية عنيفة، طرح عوض بتجرّد الباحث تقييماً مفتوحاً وقف فيه على إيجابيات وسلبيات التجربة التي كان هو شخصياً ضحيَتها حينما اعتُقِل وطُرِد من عملِه الجامعي.
ولعلي، وأنا أنتمي لجيلٍ لم يعِش التجربة، بل ويقف على أعتاب إعلان تجربة جديدة، أود أن أطرح أيضاً الملامح الأساسية في رأيي لجمهورية يوليو، كحوارٍ قائم مع رؤية عوض المتزنة.
قضية الكرامة
قامت ثورة يوليو على مبادئها الستة المعروفة، والتي لم تنجح القيادة الثورية في تحديدها أو تطبيق أكثر من نصفها، كما ذكر عوض، وهي حقيقة. ولكن تلك المبادئ كانت في عموميتها أشمل من أن تكون مجرد أجندة سياسية لحزب أو جماعة في مرحلة زمنية ما تنتهي بانتهائها، ولكن انتقال من مرحلة في التاريخ إلى مرحلة جديدة. تلك النقلة التي أحدثتها ثورة يوليو هي مكمن أهمية المبادئ.
ففي كل مرحلة نقف أمام نفس تحديات المبادئ الستة، بما في ذلك القضاء على الإستعمار الذي يطل بأنفه في كل زمان بصور مختلفة، ليست بالضرورة أن تكون عسكرية. أما رجال ثورة يوليو فقد نجحوا في امتحانهم التاريخي. لقد نجح رجال زكريا محيي الدين في كشف خطة “روديو” وضج مضاجع الإنجليز في قاعدة السويس، بينما نجح رئيس الوزراء جمال عبد الناصر في مخاطبة الغرب والشرق لخلق وضع سياسي واستراتيجي أجبر البريطانيين على الانسحاب الذي قاوموه على مدار سبعين عاماً. حينما تقرأ محاضر مجلس العموم البريطاني بخصوص اعتماد اتفاقية الجلاء، ستجد زعيم بريطانيا التاريخي تشرشل صامتاً، بينما أصواتاً من المحافظين والعمال على جانبي المجلس يتحدثون عن الهزيمة المعنوية التي جلبتها تلك الإتفاقية بعد أن كانت بريطانيا، بحسب اللورد باجيت في محضر الجلسة، تهين وتؤدب “زمرة البشوات وشرذمة المصريين المتعلمين في القاهرة” إذا على صوتهم ونادوا بالإستقلال.
لم يكن عبد الناصر مفكراً أكاديمياً، ولم يكن عنوان كتابه “فلسفة الثورة” يعكس طبيعة ما في متنِه. فالكتاب كان تجميعاً لصرخاتٍ صادقة لشاب وطني كان يدون ملاحظاته منذ مظاهرات الطلبة سنة 1935 لعودة الدستور وصولاً لإحباطاته المتتالية من الطائفة السياسية المنافقة التي وجد رجال الثورة أنفسهم مضطرين للتعامل معها بعد خلع الملك. لقد كانت تلك الطبقة نفسها التي تعاونت بعد الثورة مع الإخوان والمخابرات الأجنبية على خيانة البلاد على مدار سنواتٍ طويلة كما تكشف وثائق الأرشيف القومي البريطاني تباعاً، فلك أن تتخيل مدى احباط رجال مجلس قيادة الثورة في التعامل معهم. جُلّ كتاب عبد الناصر الذي دونه وهو في قاع إحباطه السياسي منهم سنة 1954 يتركّز في تلك الكلمة التي لطالما كررها دون أن يدون بشكل علمي تفاصيل تحقيقها: إنها الكرامة الغائبة.
لقد خلق هؤلاء الشباب واقعاً جديداً مفاده أن مصر صارت دولة ذات سيادة حقيقية لأول مرة، بعد أن كان ملك مصر بحسب مذكرات حسين باشا هيكل يقول له أنه استوعب درس فبراير 1942 كاملاً وهو ألا يعبث مع الإنجليز، وله الحرية في غير ذلك.
قضية العدالة
لم يبحث هؤلاء الشباب عن شيءٍ أبعدَ من الكرامة المفقودة لوطنٍ يحكمه الإقطاع الذي يتألف من رأس المال الأجنبي الذي لا حسيب قضائي عليه ولا يدفع ضرائب، يحيطه طبقه برجوازية سميكة تقيه شر بحرٍ من الفقراء الحفاة الذين قُدِّر لهم في وطنهم أن يكونوا بلا كرامة، كما يشرح لنا الأكاديمي ويلتون وين، الذي عاش في مصر لعقودٍ قبل وبعد الثورة وينقل لنا تلك الصورة البائسة، التي رآها أيضاً الدبلوماسي الإنجليزي دونالد مكلين أثناء خدمته في مصر سنة 1949، وتوقع على إثرها بحدوث ثورة. تلك الحالة التي لن تراها في الأفلام السينمائية اللطيفة وصور أحياء القاهرة الراقية في الحقبة الملكية.
Wilton Wynn, Nasser of Egypt: The Search for Dignity (Cambridge 1959), iii.
في سنوات جمهورية يوليو المبكرة، وحتى إعلان عبد الناصر رئيساً للجمهورية، كانت معظم القوانين، كالإصلاح الزراعي وتحديد الملكية ليست إلا تحقيقاً لما كان يريد بعض الوفديين الدفع به في الأربعينات لرأب الصدع السياسي والاجتماعي المستفحل لدرجة أثارت هلع تشرشل نفسه في رحلته الأخيرة لمصر، حتى أنه حذر فاروق شخصياً من تبعات إهماله للمصريين بهذا الشكل على استقراره.
لم تكن العدالة فقط في مواجهة الإقطاع، ولكنها كانت عدالة مبنية على أساس وطني. لقد كانت “الجمهورية المصرية” كما استقر اسمها في الدستور هي جمهورية وطنية لا تعرف الطائفية الدينية التي ترسخت قانونياً في العهد الملكي سليل العثمانلية المليّة. فقضى مجلس قيادة الثورة على المحاكم الشرعية والخاصة وصار الجميع خاضعين لنفس القانون.
للعدالة أيضاً وجهاً اقتصادياً، فقد نجحت الثورة في زيادة معدل النمو السنوي ليتجاوز 6.9%، ليحول مدخول الصادرات المصرية فعلياً من الزراعة فقط إلى ما لا يقل عن 30% من الصادرات الصناعية بحلول عام 1962، وبالمقابل انخفض استيراد المنتجات المصنوعة إلى 12% من إجمالي الإستيراد، وازدادت الرقعة الزراعية تقريباً أكثر من 300 ألف فدان في نفس الفترة، مع العلم أن هذا يوازي تقريباً حجم زيادة الرقعة الزراعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين.
ولكن أي عدالة
ولعلنا نتساءل مع وزير الثقافة الأعظم في تاريخ مصر، والذي ساهم في خلق نهضة حضارية مازلنا نعيش على فضلها، الدكتور ثروت عكاشة أحد أبرز الضباط الأحرار: هل انتهت فعلياً الجمهورية الأولى بإعلان عبد الناصر رئيساً للجمهورية سنة 1956؟ قد يكون الأمر كذلك، ففعلياً انتهت حقبة قيادة مجلس الثورة للبلاد، وانتقل ناصر بصورة راديكالية نحو تفعيل سياسات تجلت ملامحها في ميثاقه سنة 1962.
إلا أننا إذا ما قبلنا بأن جمهورية يوليو انتقلت من مرحلة المخاض إلى الولادة في عصر عبد الناصر، فسنرى أمرين عجّلا بكوارثها التي تجلت في نكسة 1967. أولها هو ما أصاب عوض في وصفه بالسياسات الاجتماعية التي أدت إلى خلق بالوعة تزايد سكاني ذهبت فيها كل منجزات الجمهورية. ولكني أذهب إلى أبعد من ذلك للقول بأن فشل ناصر في الإنتقال من الثورة إلى الاستقرار، واعتماده على استمرار الإستنفار الثوري وما نتج عنه من قرارات كارثية هي ما أدت إلى تغييب منجزات الثورة الأصلية في تغيير ملامح ووضع مصر.
باسم العدالة لم يُسمع لتقرير السيد زكريا محيي الدين، والذي وُضع على طاولة ناصر سنة 1965 حول الترهل المزري لهيكل الدولة الإداري، التشريعي والإقتصادي، وباسم العدالة وجدت مصر نفسها في معارك دونكيشوتية نعرف تبعاتها جيداً ونعيشها إلى اليوم.
بين الجمهوريتين
في ذكرى الثالث والعشرين من يوليو، لا يسعني إلا أن أحيي رجالاً كانوا يرون مشانق القلم السياسي تتدلى أمامهم، لكنهم بلا خوفٍ نجحوا في الإنتقال بمصر من “المهزلة” إلى دولة لها سيادة نجحت تارةً وأخفقت تارةً، لكنها صارة دولة وشعبها بات يعرف طريق الكرامة بعدما كان له ملك “مُهزّأ” يمنّ على شعبه بأحذية مستعملة (حرفياً) حينما يستجديه هذا الشعب المسكين من أجل عدالةٍ في الحياة .
لقد كانت ثورة يوليو فصلاً هاماً، إن لم يكن الأهم، في رحلة وطنٍ مُجهد لطالما بحث عن الكرامة، فأهدته بعد آلاف من السنين شاباً مصرياً ليقودها في تجربتها. فهل سنتعلم من تلك التجربة بنجاحاتها وإخفاقاتها؟
يوم الجلاء 18 يونيو 1956، جمال عبد الناصر يرفع علم مصر على نفس الصارية التي حملت علم بريطانيا لمدة سبعين سنة