كيف تتغيَّرُ ميولك مع تقدمك في السن؟
سميرة فخر الدين
باحثة ومُدوِّنة. حاصلة على ماجستير علوم اللغة تخصص مفاوضات، وماجستير التواصل بين الثقافات واللغات من جامعة مونس وإجازة في فقه اللغة الإسبانية.
في أغلب الأحيان، نحن لا نحب القهوة والمشروبات الغازية في بادىء الأمر لأننا أحببنا مذاقها من أول وهلة، وإنما بسبب أن “كان علينا أن نتعلم كيف نحبها”. إنها عملية دقيقة ومعقدة تستجيب بشكل أساسي للعامل الاجتماعي. يتعلق الأمر بتعلم حب المذاق الجديد بعد أن ارتبط بعامل اجتماعي مستحب. لا يوجد ماهو ألطف اجتماعيًا من احتساء القهوة مع الأهل أو مشاركتهم الارتواء بالمشروبات الغازية في حر الصيف للترفيه عن النفس. تتميز هذه العملية بنوع من الخضوع لتلاعب نفسي وعرفي خاص بالعادات السوسيوثقافية. يميل الفرد إلى البحث عن تجارب جديدة، ويُصبحُ عقله أكثر انفتاحًا. يتغير ذوقنا في الأكل عندما نتقدم في العمر. يصبح التذوق مسألة دماغية أكثر من كونها رد فعل جسدي. ينتهي بنا المطاف بالإعجاب بأطعمة ومشروبات مُغايرة لم يكن من الممكن استلطاف مذاقها من قبل. حتى طعم النكهات التي كنا نعتبرها سيئة قد تُصبحُ مقبولة مع التقدم في العمر، بل وفي بعض الأحيان قد تُصبحُ المُفَضَلة على الإطلاق! وهذا حال القهوة مثلا.
لاشيء دائم في أذواقنا باستثناء التغيير. يتغير الناس باستمرار على مر السنين، وكل تَحوُّل هو بَاكُورَة تَحوُّل آخر. إن التغَيُّر في الإنسان ليس واضحا وبَيِّنا وجليا فحسب، بل ضروري ولازِم ومُحَتَّم، إنه قانون الحياة البشرية الثابت الأزلي. يُقال أن أنجح الأشخاص ليس أقواهم ولا أذكاهم وإنما أقدرهم على خوض تجربة التغيير، والتأقلم مع كل فصل حياتي مُستجد بارتداء معطف ملائم يُناسبه. يُزهرُ قانون العيش الآمن السالم السوي من القدرة على التبدل ومن قابِلِيَّة واسْتِطَاعَة التكيف مع كل تَقَلُّب وتحوُّل. يتغيَّرُ الإنسان أحيانا حتى لايتغَيَّرَ فيه أي شئ! يتبدَّل انتصارا لآلية البقاء، لينضج، ليُواجه واقعه بشكل أفضل، لينفتح على العالم، ليتعلَّمَ من الحياة، ليكتسب خبرة، ليستفيد من تجربة… يُحْتَمَلُ أن يتغيّر الفرد أحيانا فقط ليتغيَّر! فالحياة الماتعة المُغرِية قد تكون مستحيلة دون تغيير. لايمكن اعتبار ظاهرة التغيير جيدة بشكل مُطلق ولاسيئة بصفة قطعية، هي فقط عنصر أصيل وجزء أساسي من ذلك التعقيد الهائل الذي يميزنا كبشر. إننا نتبدل في كل حين، يستحيل أن نبقى نفس الشخص على مر السنين.
كيف يتغير ذوقنا في الأكل؟
هل يمكن تغيير ميولنا في الطعام؟ هل يُمكن تعليم الذوق؟ نعم، ليس للصغار فقط وإنما للكبار أيضا! إن تعلم حب الذوق المُختلف ليس حكرا على الصغار فقط إذ يستطيع الكبار أيضا خوض التجربة وإتمامها بنجاح. يؤدي اتباع نظام الحمية الصحية مثلا إلى استلطاف الكثيرين لمذاق خضروات لم يعشقوها من قبل. إذا كنتَ تَكرَهُ مذاق بعض الأطعمة فذلك لا يعني بالضرورة أنك ستكرهها للأبد. يمكنك في الواقع إعادة تثقيف عقلك للإعجاب بالمذاق المُتَبَايِن عن طريق التدرب على تناوله بوثيرة أكبر وبطرائق مختلفة. يمكن للدماغ أيضًا أن يغير رأيه. إن تصورات العقل حول الذوق والرائحة تتغير باستمرار طوال الحياة. لا يفوت الأوان أبدًا. يخضع التدرب على عشق الطعم المُغاير وتعلم تقبل المذاقات المختلفة أيضا لعوامل اجتماعية وأخرى ثقافية. وهذا ما يفسر سبب تحملهم في المكسيك وتونس مثلا للتوابل الحارة. يبقى تدريب الطفل على عشق مذاق معين أسهل. يمكن تعليم الذوق للطفل من خلال تعويده على اكتشاف أطعمة جديدة بشكل مستمر. يستمتع الطفل بالتذوق وتعلم معرفة النكهات المختلفة والتعرف عليها (مر، حلو، مالح، حامض…). تتم هذه التلمذة منذ سن مبكرة جدًا. يمكن تعويد الطفل على تذوق كل شئ لتنمية الفضول والاستئناس بالاكتشاف وتعلم الاستمتاع بالطعم المستجد ثم نسج خيوط التعود والألفة مع المذاق ليُصبح مستلطفا مَعشوقا. عندما يكبر يحافظ على هذه الرغبة في الإيجاد والملاحظة والاستنباط واكتساب لذة التذوق والانفتاح على الطعم المختلف.
يُعَدُّ الطعام ناقلًا قويًا للذكريات. تتضخَّم طقوس الطعام التي عشناها في الطفولة وتتعاظم. تتحول من مجرد أطباق أسرية لتُصبح سمات هوياتية ذاتية تربط الإنسان بنفسه والوجود والحياة والعالم. تشكل أساسًا هاما لهويته. على سبيل المثال، عادة مايحن نزلاء دور رعاية المسنين لتناول أطباق بَصَمَت طفولتهم وشبابهم. لايتعلق الأمر هنا فقط بعشق طعم هذه الأطباق وإنما بالرغبة في استحضار الغابر من أعمارهم والراحل من أحبابهم والاستئناس برفقة خيالية لوالديهم وإخوتهم وأزواجهم وأبنائهم، واستدعاء سياق زمني ومكاني غابر مندثر مستحيل التحقق. لانفقد بالتوقف عن تناول أطباق الطفولة فقط مذاقات مفضلة وإنما نفقد معها جزءًا من طفولتنا وذكرياتنا وماتبقى من خيال تَجَمُّعاتنا الأسرية في حضن جَدَّةٍ راحلة، وما تبقى من آثار جلسة قهوة مع جَدٍّ راحل. وتَجَمُّعات مع صديقات عُمرٍ أخذَتْهُن الحياة بعيدا، ليَصْنَعن مع أحبابهن قهقهات أخرى بعيدة لا نُشاركهن فيها. وجلسات ماتعة مع زملاء دراسة احتفاءً بنهاية العام بطبق مميز وابتسامة وضحكة من القلب. وذكريات العيد ورائحة الحلوى وجارة تدخل بيتك دون استئذان بيدين تحملان تهنئة وكرم، ونسيم فطائر منسمة بالعسل، عسل الحضور والرفقة والضحكة الصافية، عسل الأماكن والروائح والجدران والذكريات. ترتبط طقوس الطعام الأسرية القديمة في أذهاننا بلحظات وجدانية واستقرار أُسَرِي عاطفي ترافقنا في مختلف مراحلنا الحياتية، خاصة إذا ماوُلِدَ هذا الطبق في ذهنك في مرحلة الطفولة. قد تتغير أذواقنا في الأكل مع التقدم في العمر، ولكن تبقى لعادات الطفولة هيبتها، تماما مثلما نتذوق عشرات الأنواع من الفطائر من مختلف البلدان والثقافات وتبقى الفطيرة التي حضَّرَتها الجدة ذات مساء، ذات حنان، ذات حضن، في طبق خال من الزينة.. تبقى تلك الفطيرة في ذهنك، إلى آخر أيام عمرك.. الألذ والأفضل!
تغير الميول الموسيقية مع التقدم في السن
ما هو نوع الموسيقى المفضل لدى الأشخاص الأذكياء؟ لايوجد! ليس هناك نوع موسيقي مُحَدَّد يؤكد أن مُستَمعه أذكى من غيره. لاتحدد الأذواق والميول ذكاء أي شخص. يُمكن تحديد مستوى ذكاء الفرد الموسيقي انطلاقا من قدرته على اكتشاف المفاتيح الدقيقة للنغمات ومدى انتباهه للتفاصيل الموسيقية الرَشِيقة الضامرة واستطاعته خلق صِلة بين اعتصارات موسيقية ونغمات متماثلة في قطع متباعدة، وتمَكُّنه من ابتكار آصرة وصل بين مقاطع مُتباينة، ومَقدِرَتِهِ على مزج فكرة أو كلمة موسيقية حديثة بأخرى قديمة… هذه القدرة تسمى “امتلاك أذن موسيقية”. الذوق الموسيقي الجيد والذكاء الموسيقي هو ذلك فقط لاغير.
كلما تقدم الفرد في العمر أصبح أقل تقبلا للموسيقى المُستَجَدَّة التي لم يسمع بها من قبل، إذ تضعه الأغاني الحديثة خارج دائرة الراحة الخاصة به، بعيدا عن مَأْمَن الاعتياد، قَصِيّاً عن طُمَأنينة ترداد ذكرياته وطفولته وشبابه… خارقاً لميثاق لقاء تاريخه.
يستمع الأشخاص في سن المراهقة والشباب إلى عدد أكبر من الأغاني الجديدة. الأمر الذي يُصبِحُ مع التقدم في العمر أكثر رتابة وأقل حدوثا، ويمكن تفسير ذلك بعدة عوامل: تعدد المسؤوليات خارج لحظات الاسترخاء، العمل، أو حتى عدم الاهتمام باكتشاف أشياء جديدة. يغدو المرء في هذه المرحلة، أكثر انجذابًا للمقطوعات الموسيقية القديمة التي تذكره بماضيه وطفولته. يعود باستمرار إلى “معدنه” الموسيقي المُتَقَدِّم الأَزَلِي. تُحفِزُ هذه المقطوعات السابقة العَرِيقة الدماغ على إفراز مادتي الدوبامين والسيروتونين، اللذان يُعْرَفان بين العوام وفي وسائل الإعلام المختلفة باسم «هرمونات السعادة». وهذا مايُفسر المتعة التي يجدها الشخص اليافع الرَاشِد عند الاصغاء للأغاني العَهِيدة العتيقة. تتكرر نفس الظاهرة بشكل متطابق جيلا بعد جيل، لِتُكَوِّنَ بذلك نهج سلوكي إنساني متماثل يتردد على مر الأزمنة وجزء لايتجزأ من “عصور” الإنسان الموسيقية.
عندما نُغيِّرُ نمط مَلْبَسنا نُغيِّرُ مشاعرنا
“عندما نُغَيِّرُ ملابسنا، نُغَيِّرُ سلوكنا” الكاتب الفرنسي فردريك مونيرو.
نلجأ أحيانا لاستبدال ملابسنا لتَبْدِيل مزاجنا. بعد يوم مُتْعِب مُرهِق، من منا لم يرغب في ارتداء زي جديد أو مُغاير لتصويب مزاجه؟ ينبني هذا السلوك التلقائي على فكرة أن المزاج يتغلغل في ملابسنا، وكأن هناك نفاذية بين الداخل والخارج. والعجيب أن هذه التقنية تعمل في بعض الأحيان، أو على الأقل، تعمل طالما نستطيع إقناع أنفسنا بنجاحها في إعادة توجيه الذهن وتصفيته! على غرار ذلك، يتشبَّثُ آخرون باتباع النمط الواحد في المَلبَس، واعتماد اللون الأُحادِيّ الأوحد لأغلب الثياب. غالبا مايعكس إصرار الرجوع لنفس اللون ومُعاودة نفس النمط وترداد عين الهيئة، صورة ذاتية هشة لشخصية مترددة. يمكن أن يكون ثبات الشَكْل ليس سوى محاولة دعم لهوية متذبذبة مرتبكة مترنحة غير واثقة. إن النظر إلى النفس في المرآة ورؤية المَظْهَر دائمًا على حد سواء، يصبح في هذه الحالة وسيلة لتقوية ومُؤَازَرَة ودَعْم ذات ضعيفة. الأمر الذي ينم عن ترسخ اعتقاد لاواعي لدى الشخص بأن أي تغيير في أسلوبه سيكون بمثابة المخاطرة بأن يكون غير متماثل وغير مُتَجَانِس ومُجرَّد من رفاهية الاستقرار وأمان السكون وطُمَأْنينة الثبات وسلامة الاعتياد.
تتأثر اختياراتنا للملابس ليس فقط بمعتقداتنا الدينية الخاصة أو ميولنا الفكرية الذاتية وإنما أيضا بمعتقدات المجتمع الخارجي وقناعات الآخر. لايعكس المظهر الخارجي دائما ميول الشخص الحقيقية الصادقة في الملبس وقناعاته الخاصة وخياراته المستقلة الحرة. ليس كل من يختار ملابسه، يختارها فعلا! لايملك الشخص رفاهية التَخَيُّر كاملة. إنه يوكل الانتقاء لعدة عناصر تُقيِّدُ هذا الإنتخال وتُغَربِلُه. نذكر من بينها: البيئة السوسيوثقافية، الأسرة، معتقدات الآخر… لذلك قد تكون الهُوَّة بين من هم حقًا وما يجبرون على إظهاره شاسعة هائلة، حد التناقض والانفصال التام عن الهوية الخاصة والأنا.
إن كيفية اختيار ثيابنا تتحدث غالبا عنا، عن تاريخنا، عن ماضينا، عن أفكارنا، عن رغباتنا الواعية ونزعاتنا اللاواعية. تحمل ملابسنا آثار مشاعرنا، ترسم ميولنا الفكرية، تصف خُلاصة تجاربنا، تَشرح محصلة قناعاتنا. تنقل الملابس التي نختارها لأنفسنا رسالة إلى الذات وإلى الآخرين، تعكس الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا في المرآة مع هذا الزي أو ذاك، نتحكم من خلالها أيضا في الانطباع الذي نبتغي تصديره للآخر عنا.
يرى المحلل النفسي الانجليزي دونالد وودز وينيكات، أحد رواد علم النفس التنموي المهتم بدراسة كيفية وسبب تغير البشر على مدى الحياة، أن نظرة الأم لابنها هي أول مرآة يرى فيها الطفل نفسه. يُدرِكُ الصغير كيانه في بادئ الأمر بعيون أمه. يستمد ذوقه من ذوقها. يختار ثيابه من خلال الأزياء التي تختارها له، والطريقة التي تَحنو عليه بها وتُغطيه وتعتني به وتُعجَبُ به. تتبدَّلُ اختياراتنا للملابس مع المرور من مرحلة عمرية لأخرى. في مرحلة المُراهقة، تُصبح الثياب وسيلة هامة للتحكم في المظهر الجسدي، والتعامل مع حقيقة نضج الجسم الطاغية في عقل المراهق في هذه الفترة. تتحوَّلُ الثياب لأداة يستخدمها للظهور أو الاختباء. قد يستعملها بشكلين متناقضين لغرضين معكوسين: الاختباء وإخفاء الطابع الجنسي المستجد البارز في منحنيات جسمه أو الإبراز ولفت الانتباه لتغيُّره الجسماني. يكتسي الزي أغراض وأهداف متعددة في كل مرحلة من مراحل الحياة. في مرحلة الشباب، تشمل الملابس مقاصد وغايات مستجدة تتماشى مع متطلبات الحياة واحتياجات الفرد الرومانسية والودية والوظيفية والاجتماعية…
ما بين سيكولوجية الألوان وتقلب شخصية الانسان
هل لديك لون مفضل؟ في أغلب الأحيان يكون الجواب: “نعم، لون محدد واحد: أزرق، أخضر، أحمر، أصفر …” في أوقات أخرى يكون الجواب “نعم اثنان” بمعنى لونان. بينما سيؤكد البعض الآخر أنه يحب كل الألوان وليس لديه تفضيل محدد. هذه الأجوبة قد تكون، دون قصد، مجرد ردود زَائِفة ومَغْشُوشة وغير صحيحة ولاحقيقية. قد تُصرح أنك تفضل الأخضر مثلا، بينما تميل في واقع الأمر للأصفر دون أن تعرف ذلك! إن أفضل طريقة للتحقق مما تقوله والوعي بميولك بشكل صحيح وتحديدها بشكل صادق هي فتح خزانة ملابسك وتأمل الأشياء الصغيرة التي تُزين أرجاء بيتك، حينها فقط ستدرك في لمحة مُدَقِّقَةٍ عابرة ما هي أعلى نسبة لون حصينة غالبة رابحة منيعة مُسيطرة، ليكون ذلك اللون، في حقيقة الأمر، هو لونك المفضل.
لماذا يحدث هذا؟ لماذا نحدد لونا مفضلا بينما الواقع يبرهن أننا نختار آخر؟ لماذا نخطىء التعيين؟ لأن التعريف والتحديد يُكبِّلُنا بالمُتعارف عليه اجتماعيا والمحدد مسبقا أنه الأجمل والأفضل حسب العرف الجماعي أو الثقافي، لأن التعيين يصِلُنا بمن نريد أن نكون ويُقَيِّدُنا أكثر بالمظاهر الجاهزة المُتَطلَّع إليها.
الألوان.. ليست مجرد عناصر مرتبطة بشكل سطحي ومباشر بحاسة البصر، وإنما هي آليات مُسيطِرة قوية مُضْمَرة بَاطِنة تؤثر على جوانب مختلفة من حيواتنا وقراراتنا دون أن ندرك ذلك. تتحول الألوان إلى آليات تُرشدنا بشكل تلقائي للقيام بممارسات حياتية محددة وانتقاء خيارات شخصية معينة دون وعي مقصود أو إدراك متعمد أو عزم مُقَرَّر. على سبيل المثال، يمكننا الحصول على فكرة أولية عن منتج ما بمجرد النظر إلى لونه. وهكذا، قد نختار مُنتَجا غذائيا بلون برتقالي فقط لأن أذهاننا استحضرت في تلك اللحظة بشكل لاواعي نكهة البرتقال.
يتغير ذوقنا في الألوان بتغيُّر العمر. يتبَدَّل ذوقنا ويتحول كلما تدرّجنا من مرحلة حياتية لأخرى. نمر من عشق لون إلى عشق لون آخر، هكذا دون أن نفهم لماذا! ينفر ذوقك من لون ما ليفوز بك الأجدَر، ليفوز بك اللون الذي تألفه الروح وتُميِّزُه العيون بين آلاف التفاصيل؛ اللون الذي تراه فجأة في الحُسن لايُحاذى، اللون الذي يُضلِّلُ خاطرك وبمهجة نفسك يَحلُ ويُقيم. لون يأويك ويملؤك ويُحييك. لون يغفر خطاياك الْكَثِيرَة، كلما رأيتَهُ كثيرا. لون صوته أعلى من طنين طبل مرابطي وأرق من دندنة قيثار عبَّادي إشبيلي. لون تُحبُه فجأة وتُفضِلُه على الجميع ليس فقط لكونه بعينيك الأفضل وإنما لأنه صار وحده القادر على التعريف بميولك وهويتك وأناك. لأنه أصبح خاصا بك، مترجما لك، متحدثا عنك. مامن زينة أفضل للجسد من قلبٍ رقيق وما من زينة أفضل للرؤية من تأمل لون للقلب رَفِيق. كل ماهو جميل، هو بالضرورة مفيد، حتى رؤية لونك المفضل وإمعان النظر في درجته وحرارته .. مُفيد!
وماذا يحدث للألوان التي ترفضها؟ التي ترفض ربطها بشخصيتك وتنفر منها وتنبذها؟ هي أيضا تُحسَب وتعني الكثير. يُعبِّرُ لونك المفضل الأثير المُبَجَّل عن نقاط قوتك، بينما يُعبر لونك المكروه المَرْذول المُبْغَض المُسْتَهْجَن عن نقاط ضعفك. يتحدث اللون المَنبوذ المستبعد المُمتهَن عن جزئك الهش الخائر الفاتر الوَهِن الرهِل السلبي الحساس. يُخبِرُنا اللون المَقصِي المُبعَد المَطرود عن شطرك المنفطر بالجروح، عن عنصر عَضِل وثيق مَضَّاء يسكُنُك ويجعلك سريع التأثر، قليل التحصين، قابلا للعطب. يَفضَحُ اللون الذي ترفضه نقاط ضعفك ومكامن الخَلَل في نفسِك. تُخبرنا الألوان التي تنفرُ منها ولاتَختارُها ولاتُقَدِّرُها ولاتُجِلُّها، وتلك التي لاتَرجُّك ولاتهزك ولاتنفُضُك بالمجالات الضامرة الواهنة المُتراخية المُتَخاذِلَة في شخصيتك والجوانب الذاتية الذابلة المهزولة الخافتة التي تحتاج أن تخصص لها اهتماما أَعْظَم وعِنايَةً َأضْخَم وإِكْتَرَاثا أَفْخَم وإِعْتِنَاءً أَغْلَب، لتحويلها من نقاط ضعف ونَقْص وضُمُور إلى نقاط قوة وشِدَّة ووَثَاقَة وصَلاَبَة. وقد تُخبِرُنا أيضا بآثار خدوش الطفولة التي لازالت تستلزم نقاهة وتَعافٍ وتداوي. إن النفور من بعض الألوان قد يكون، في كثير من الأحيان، ليس سوى ممارسة نفسية لاواعية لاشعورية لحيلة آلية الإسقاط الدفاعية. تتجنب الشعور بعدم الراحة النفسية وتقوم بإسقاط هذه الحالة المزاجية الشاجِنَة الواجِمَة على لون يمثلها في ذهنك. عادة ما يُنظر إلى مشاعرنا على أنها شيء ينتمي إلى الآخر. بينما في حقيقة الأمر هي ليست سوى انعكاس لرؤيتنا لأنفسنا. أنت عندما تكره شخصا ما، هذا يعني غالبا أنك تكره في صورته، في حضوره، في صوته، في شكله، في فِكرِه… شيئًا تمتلكه في نفسك. قد لاتُحِبّ الآخر مُداراةً لخوفك من أن تكون مرفوضا، وقد لاتُحبّه لكونه رفضك بالفعل. وقد يكون حضوره مزعجا فقط لتفوقه عليك!
إن تأمل ألوان محددة لمُدَّة معينة كفيل بإسكان نُفوسنا وتسكين أرواحنا وطمأنة وِجْدَاننا وِتهدئة قلوبنا، بينما قد يكون لتأمل ألوان أخرى لفَتْرَة مَعْلُومة مُؤَقَّتة مفعول عكسي، قد يُقلِقُنا حضورها وتُزعجنا تدرجاتها وتُضايقنا أطيافها. عادة ما تجلب الألوان المرفوضة المَرْدُودة قدرا أكبر من الانتباه مقارنةً بالألوان المقبولة المُحَبَّبَة. ويُفسَّرُ ذلك بنوع من التَنَبُّه العاطفي لما هو مرفوض والتَيَقُّظ للمُستَنكَر والصَحْو للمشجوب وتحيز الانتباه للمُستهجن المُمتهن المردوع المُعرَض عنه والانجذاب لما هو سلبي وغير مقبول. على نفس المنوال، تجذب التعبيرات السلبية والكلمات النابية والعبارات المُبتذلة انتباه العقل ويقظة الإدراك وصحو البصيرة لتُنتج استجابة عاطفية سريعة فورية رشيقة عاجلة مقارنة بالتعبيرات الإيجابية التي لاتلفتُ الانتباه بنفس القوة والحدة والخشونة والسطوة والغِلظة والشراسة. عندما نتلقى مثلا، من باب التشجيع، عبارة “حسنًا لابأس واصل” البسيطة الخفيفة المنمقة اللبِقة، لاننتبه! لاتوقظ العبارة اهتمامنا بشكل كبير لكونها حَسَنة الصِّياغة مهذبة ظريفة وبالتالي اعتيادية مألوفة. لاتُشعل العبارة إتقادا في أذهاننا، بينما استعمال تعبير آخر جاف عَسِر جِلْف فَظّ في نفس السياق مثل “هذا خطأ أيها الأحمق” يضرب على الفور، يُوقِظُ دون إبطاء، يُزلزل للتو، يُنَبِّهُ على الأثر، يُهزُّ في الحال، يَرُجُّ دون تأخير. تتمتع العبارات السلبية والتعليقات الفَجّة الثَقِيلة الغلَيظة المُخالفة للذوق واللياقة والمعادية لرحابة التهذيب الإنساني بقوة رج عنيفة للعقل نظرًا لغرابتها وعَجَبها إذ نادرًا ما يتم نطقها وتداولها في السياق الاجتماعي اليومي ويتم إسقاطها وتهميشها واستبدالها وتعويضها بتعبيرات ألطف أرقى وأنسب.
بعيدا عن حالات الإعراض السطحي الإعتيادي والإِحْجام الظَاهِريّ البسيط عن بعض الألوان المرتبطة في أذهاننا غالبا بنقاط ضعف معينة، هناك حالات نفسية مَرَضِية متطورة تُدعى الكروموفوبيا أو الخوف الشديد من الألوان. ترتبط معظم أنواع الرهاب بمخاوف غير عقلانية مُلِحَّة مستمرة لاتستجيب للحجج الإدراكية الواعية المنطقية العقلانية. لذلك يأتي الرهاب من الألوان مصحوبا بعدة أعراض عند وجود اللون المنبوذ “الحافز/المُحرِّك/ الدافع” نذكر من بينها: الذعر، القلق، الهلع، فرط التنفس، فرط التعرق، الصداع، الغثيان… تمتدُّ حالات الرُّهاب بشكل عام للماضي، لأحداث مأساوية قديمة بائدة سابقة وكوارث مُتقدمة سالفة: (الموت، الحوادث، الجرائم، العنف، الاعتقال، التعذيب، الاغتصاب…). عادة ماترتبط هذه الندوب النفسية العاطفية بلون محدد، يصبح في مخيلة المريض نافذة على اللاأمان ومرادفا للخطر، كأن يرتبط الخوف من اللون الأحمر مثلا بالفزع من الدم.
تختلف دلالات الألوان وتتباين وتتفاوت وتتناقض بالمرور من ثقافة لأخرى. في الثقافات الغربية وكذلك في بعض الثقافات الآسيوية مثل الهندوسية، يرمز اللون الأبيض مثلا للنقاء والبراءة والفضيلة والطُمَأْنينة والأَمَان. أما في الثقافات الإفريقية، هو لون الموت، لون الروح الطاهرة المُنَقَّاة الخالصة الصافية التي تغادر الجسد. للأسود دلالات سلبية في الثقافات الغربية لارتباطه بما يُرافق الموت من حزن وكرب وأسى وإستياء، حيث يُستخدَم اللون أيضا كرمز للشر والشؤم والدمار والخراب. بدلاً من ذلك، يرمز الأسود في بعض حضارات ماقبل التاريخ للخصوبة والنمو. نظرًا لارتباطه الراسخ الوطيد الوثيق بالظلام، فالأسود علامة دالة على الغموض والإلغاز والخفاء والغيب والمجهول. في عالم الموضة، الأسود هو لون الأناقة والرسمية والرصانة والإِتِّزان والإِعْتِزاز والرُشْد والوقَار.
في القرون الماضية، خيَّمَ اعتقاد شعبي شائع في بعض الأوساط الفنية الغربية يربط اللون الأصفر بسوء الحظ. لذلك اعتاد أهل الفن، من ممارسي الغناء والتمثيل المسرحي، هجر اللون الأصفر وطرده من الزي الاستعراضي درءاً للفشل والتوتر والتعَثُّر. نفس اللون تجنَّبَهُ مصممو الأزياء قديما باعتباره لونا غير مقبول في عالم الأناقة والموضة، إنه لون الجبن القديم المتعفن، لون شحوب هالكي الأسقام والأوبئة، لون الموت! في العصور الوسطى، أُرغِمَت بائعات الهوى والأمهات العازبات على ارتداء غطاء رأس أصفر أو شال أصفر أو رباط حذاء أصفر. التزَم كل شخص مديون بارتداء قرص أصفر مَخيطٍ على ظاهر ثوبه. تم التضحية بمتهمي الزندقة والهرطقة على صليب أصفر. تعددت الاكسسورات التعريفية التخصيصية للطوائف المَنبوذة آنذاك إلا أنها توحدت في إلزامية لونها الأصفر. كل هذه الأمثلة تدل على الخزي الذي يمثله هذا اللون في ثقافة أوروبا العصور الوسطى. الأصفر، له أيضا علاقة وثيقة بالخبث السلوكي. يهوذا الإسخريوطي، هو واحد من تلاميذ المسيح الإثني عشر ويسمى أيضا بيهوذا سمعان الإسخريوطي، عادة ما يتم تمثيله في لوحات الرسم برداء أصفر. بحسب الأناجيل القانونية، فإن يهوذا الإسخريوطي هو التلميذ الذي سلم يسوع لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة وبعد ذلك ندم على فعلته ورد المال لليهود وذهب وقتل نفسه، وبعد قيامة يسوع من الموت اختار الرسول متياس بديلا عن يهوذا ليكون من جملة الاثني عشر. لم يتوقف الأمر عند القرون الوسطى، بل استمر بشكل أو بآخر للقرن العشرين، وكمثال على ذلك يمكن أن نذكر إجبار النازييون يهود أوروبا على ارتداء نجمة صفراء تمييزية.
على غرار ذلك، يتمتع اللون الأصفر في الصين بقيمة رمزية تاريخية جليلة وبوَجاهَة دلالية مهيبة. إنه لون الفخر والمجد والجاه والأُبهة والحكمة. تَضُمُّ البوصلة الصينية خمس اتجاهات، الشمال والجنوب والشرق والغرب والوسط. لكل منها لون رمزي. الأصفر يعني الوسط، كناية على المملكة الوسطى أي الصين التي تقع، حسب هذا المعتقد الشعبي، في قلب العالم. كان اللون الأصفر هو لون المملكة الوسطى (الصين)، بينما اعتُبِرَ قصر الإمبراطور المركز الدقيق للعالم. أُطلِقَ على الإمبراطور الأسطوري الأول للصين اسم الإمبراطور الأصفر. وصف آخر إمبراطور حكم الصين، وكان الإمبراطور الأخير من سلالة تشينغ المنشورية من آل أيسين غورو (1906-1967)، في مذكراته كيف أن كل الأشياء التي أحاطت به عندما كان طفلاً صغيرا حملت اللون الأصفر: “لقد جعلني أفهم من سني الصغير أن لدي جوهرًا فريدًا، وغرس في داخلي وعيًا بـ -طبيعتي السماوية- التي جعلتني مختلفًا عن أي إنسان آخر”. تم السماح فقط لأفراد الأسرة الإمبراطورية بارتداء اللون الأصفر. كما اتبعت العادات العسكرية تقليد استقبال الزوار المميزين فوق سجادة صفراء لا حمراء.
لايرتبط حقل سيكولوجية الألوان فقط بما هو ذاتي شخصي خاص فردي أُحادي وإنما يرتبط أيضا بما هو ثقافي شعبي جماعي. تُعتَبَرُ الألوان واحدة من أقدم المعارف الإدراكية وأعتقها تأصيلا في أدمغتنا. تتغيَّر نظرة الفرد للألوان بتغير ثقافته الأم، وتتقلَّب زاوية رؤيته لها وتتبدل وتتحوَّل وتَتَنَوَّع مع تنوُّع وتعدُّد الثقافات التي ينفتح عليها. لذلك قد يُفَسَّرُ أحيانا تَخَيّرنا وتفضيلنا للون معين دون غيره، فقط لكونه عَلِي الشأن في جذور ثقافتنا الجماعية أو لكونه مأثورا في الطقوس الدينية المقدسة أو وثيق الارتباط بعادات وتقاليد الموروث الشعبي المحلي.
مجهود مشكور استاذة سميرة