قصة الانفجارين العظيمين

Thomas Nabil
PhD student in Mathematical Cosmology at the University of Otago, New Zealand. Master in Theoretical Physics from the University of Bologna, Italy. His research interests include Relativistic Cosmology, as well as the Philosophy of Physics
في مجال علم الكونيّات، يملك مصطلح “الانفجار العظيم” معنيين مختلفين، وإذا كنت ترغب في فهم ما يحدث في الكون، فعليك الحذر فيما يخص الاختلاف بينهما.
الرجوع للبداية:
بما إن الكون بيتمدد، ده معناه ان المسافات بين المجرّات المختلفة بتزيد بثبات [1] مع الوقت. بالتالي، لو عكسنا الزمن ورجّعنا الساعة لورا، هنوصل لمرحلة كانت فيها كل المجرات قريبة جداً من بعض. لو قعدنا نرجع لحد ما نوصل تقريباً ل14 مليار سنة من دلوقتي، هنلاقي الكون ساعتها في حالة خاصة جداً. مش هنلاقي خلاص أي نجوم او مجرّات لوحدها كده في الفضاء، لكن الكون كله هيكون مليان بخليط من جسيمات اوليّة مختلفة وإشعاع كهرومغناطيسي. وزي ما احنا عارفين من خبرتنا اليومية أن اي غاز في وعاء لو سيبته يتمدد، درجة حرارته هتقل، والعكس صحيح لو ضغطته. بالتالي، الكون في المراحل الاولى دي درجة حرارته كانت مرتفعة جداً. بنتكلم تقريباً في ملايين من درجات الحرارة المئوية.
لو اعتبرنا النسبية العامة لاينشتاين النظرية المناسبة لوصف الجاذبية، وحاولنا نطبقها على نموذج مبسط للكون، بحيث اننا نفترض ان الكون متماثل في كل اتجاه وفي كل نقطة في الفضاء، ومليان مادة واشعاع، هنلاقي ان الرحلة لورا دي مش ممكنة بشكل غير محدود! اللي هيحصل اننا هنوصل للحظة في الزمن هنلاقي عندها كل المجرات متكدسة في نقطة واحدة حجمها صفر. بما إن الكثافة هي نسبة كتلة ما من المادة للحجم اللي بتشغله في الفراغ، هنفهم من كده ان الكثافة عند اللحظة دي كانت لانهائية. وبما إن النسبية العامة بتربط وجود المادة (والطاقة) بالطريقة اللي بيها الزمان والمكان (او الزمكان) حواليها بينحني، نفهم من كده ان انحناء الزمكان برده هيكون لانهائي! بالتالي، لو اعتمدنا في فهمنا على النماذج الكونية المبسطة دي، هنلاقي ان فيه حافّة في الزمان (او الزمكان) مينفعش نسأل ايه اللي جه قبلها، هي دي اللي بنسميها المتفرّد. [2]
متفرد الانفجار العظيم وطور “الانفجار العظيم”:
دلوقتي، بما اننا تتبعنا تطوّر الكون لورا لغاية ما وصلنا للحد اللي النماذج المبسطة دي تسمح بيه، محتاجين نوقف لحظة ونبص على الموضوع كله كالاتي: في النماذج دي، بنلاقي ان بداية الكون هي متفرّد، واللي غالباً بيتسمى “متفرّد الانفجار العظيم” أو ببساطة “الانفجار العظيم”. مباشرة بعد المتفرد ده، كان فيه مرحلة من التمدد الكوني، واللي فيها درجة حرارة وكثافة المادة في الكون كانت كبيرة جداً لدرجة ان العلم حالياً لسه ميقدرش يقولنا ايه اللي حصل ساعتها-ببساطة، معندناش نظريات فيزيائية تجريبية تقدر تقولنا المادة بتتصرف ازاي في ظروف غير تقليدية زي دي.
بعد ملايين جزء من الثانية، الظروف في الكون بترجع طبيعية تاني، على الاقل من وجهة نظر فيزياء الطاقات العالية [3]: المادة عند درجة الحرارة والكثافة دي ممكن نعيد انتاجها في اقوى المختبرات الموجودة دلوقتي عندنا (النوع ده من المختبرات بيتسمى مسارع جسيمات)، وبالتالي الفترة دي من تاريخ الكون ممكن نفهمها عن طريق دمج فيزياء الجسيمات الاوليّة مع النسبية العامة. بعد كام ثانية من اللحظة دي، بنوصل مرحلة مهمة اسمها التخليق النووي. دي المرحلة اللي فيها نواة اول عنصر من العناصر الخفيفة زي الهيليوم اتكونت. بعد حوالي 380.000 سنة، درجة حرارة الكون انخفضت كفاية بحيث انها تسمح بتكوين أول ذرات مستقرة. بعدين، على مدار ال 14 مليار سنة اللي جم بعد كده، درجة حرارة الكون استمرت في الانخفاض اكتر من كده، نجوم ومجرّات كاملة اتكونت، وفي الاخر على سطح كوكب، قريب من نجم غير مميز على الاطلاق، اتطورت فصيلة من القرود الفضولية بزيادة، واللي ممثليهم بعد كده اخدوا على عاتقهم المهمة الضخمة بتاعت محاولة اكتشاف اللي حصل قبلهم!
بالتالي، هنا بنلاقي المعنيين المختلفين لمصطلح الانفجار العظيم، زي ما متوضح في الصورة كده

بنلاقي في الصورة على الشمال لحظة البداية اللي هي متفرد الانفجار العظيم (Big bang singularity)، بعدين بيجي بعدها طور الانفجار العظيم (Big bang phase)، بحيث الزمن في الصورة اتجاهه من الشمال لليمين، وده واضح من حجم الكون اللي بيزيد مع الزمن. بالتالي، احياناً الانفجار العظيم بتستخدم عشان توصف المتفرد -اللي زي ما قولنا قبل كده ده اللحظة الاولى اللي بتمثّل بداية الكون في النماذج المبسطة اللي بنعتمد عليها. بس احياناً تانية “الانفجار العظيم” بتشمل الدقايق الاولى، او ساعات حتى اول 380.000 سنة من تاريخ الكون المبكر- بالتبعية هنا بنوصف طور (مرحلة) الانفجار العظيم على بعض. ده احياناً كمان طور الانفجار العظيم بيتوصف بكونه يشمل كمان فترة افتراضية من التمدد المتسارع جداً اسمها التضخم الكوني، واللي من المفترض انها بدأت حوالي -43^10 ثانية بعد متفرد الانفجار العظيم.
محتاجين هنا ناخد بالنا انه، مقارنة بعمر الكون الكبير، الاختلاف في المعنى بين المصطلحين ضئيل الحقيقة. لكن، بالرغم من ده، ففيه سياقات فيها الاختلاف ده بيصبح مهم. خلينا ندى مثالين.
أنهي واحد فيهم؟
هل الانفجار العظيم حصل فعلاً؟ لو تقصد طور (مرحلة) الانفجار العظيم، الكون السخن المُبكر زي ما بتوصفه بشكل كويس نظريات فيزيائية معروفة، فالإجابة هتكون ايوه! عندنا دليل كافي يقول إن من 14 مليار سنة، الكون اتمدد واتطور بالطريقة اللي بتقترحها النماذج الكونية اللي عندنا (العناصر الأساسية للدليل ده هي النسب الأصلية لتوفّر العناصر الخفيفة زي الهيدروجين والهيليوم، واللي بتتفق مع نتايج الرصد الفلكي، وتوزيع المجرات البعيدة عننا في الفضاء واخيراً وجود إشعاع الخلفية الماكروي [4] وفهم خواصه).
لكن، على النقيض، بنلاقي ان سؤال لو كان متفرد الانفجار العظيم حصل فعلاً سؤال مختلف تماماً. معظم علماء الكونيّات هيتفأجوا للغاية لو اُكتشف ان الكون بتاعنا كانت ليه بداية ذات درجة حرارة لا نهائية، وكثافة لا نهائية وانحناء للزمكان لا نهائي. في العادي، كون ان نموذج ما يتنبأ بقيم لانهائية لكميات فيزيائية معينة معناه ان النموذج مُبسط للغاية، وانه بالتالي بيفشل انه يضم عنصر اساسي موجود في الكون الحقيقي جوه التفسير بتاعه. في الواقع، احنا عندنا فكرة ايه اللي النماذج الكونية المعتادة بتفشل انها تشمله: عند كثافة كبيرة جداً، لما الكون كله كان حجمه أصغر من الذرة نفسها، احنا بنتوقع ان التأثيرات الكميّة [5] يكون ليها دور حيوي.
لكن، النماذج بتاعتنا مش بتشمل نسخ كميّة شاملة للمكان، والزمان والهندسة- بمعنى تاني، النماذج دي مش قايمة على نظريات كمّية للجاذبية. في الوقت الحالي، معندناش نظرية موثوقة ومُجربة لايه هي الجاذبية الكمية [6]. رغم ان عندنا حالياً عدد من المقترحات لشكل النظرية دي، لكن ولا واحد منها متطور كفاية انه يدينا تنبؤات عن الكون المبكر.
بالتالي، رغم ان بعض علماء الكونيّات معندهمش مشكلة مع افتراض ان الكون بتاعنا بدأ في حالة متفردة، الغالبية العظمى منهم عندها قناعة ان متفرد الانفجار العظيم ملوش وجود حقيقي- ظاهرة هتتبدل بوصف اكتر دقة اول ما يكون فيه تقدم ملموس في مجال الجاذبية الكمية. طب هيُستبدل بايه؟ محدش عنده اجابة اكيدة على السؤال ده. في بعض النماذج المقترحة، ممكن ان الزمن يمتد لا نهائياً للماضي. في نماذج تانية، الانفجار العظيم بيتبدل ببداية للكون من غير اي قيم لا نهائية خالص، لكنها برده بداية عندها زمن غير اللي احنا متعودين عليه.
على النقيض الاخر، لما علماء الكونيّات بيتكلموا عن شيء حدث ثانية، دقيقة أو 400.000 سنة بعد الانفجار العظيم، قصدهم بيكون بعد متفرد الانفجار العظيم. السبب في حاجة زي كده ان في النماذج بتاعتنا بنلاقي ان الصيغ المختلفة اللي بتوصف تمدد الكون بيكون شكلها مُبسط لما بنختار لحظة الزمن صفر بأنها تكون المتفرد. ده ليه فايدة كبيرة للحسابات الفيزيائية اللي بتتعامل مع الكون المبكر، وبالتالي ده يخليه اختيار منطقي.
برغم من كده، لسه في امكانية للحيرة. اي حد مش معتاد على مصطلحات علم الكونيّات ممكن يفترض ان جملة زي “جزء من 100 جزء من الثانية بعد الانفجار العظيم” معناها انه، من وجهة نظر اللي بيتكلم او يكتب، كان فيه بالفعل متفرد الانفجار العظيم. ده مش دقيق خالص! الجملة دي ممكن نعتبرها اختصار لجملة تانية على شاكلة “عند جزء من 100 جزء من الثانية، حيث الزمن الكوني اتعرّف بطريقة تخلي حسابات الكون المبكر بسيطة بشكل خاص”.
المرجع:
Markus Pössel, “A tale of two big bangs” in: Einstein Online Band 04 (2010), 02-1015.
[1] في بعض النماذج الكونيّة بنلاقي ان معدل تمدد الكون بيكون ثابت، لكن فيه اعتقاد كبير، بناءً على المشاهدات، ان تمدد الكون بتاعنا في الحقيقة بيتسارع مع الزمن.
[2] الاعتقاد اللي كان سائد في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إن وجود المتفرد كانت نتيجة للافتراضات المُبسطة اللي فرضناها في النماذج بتاعتنا. لكن نظريات المتفرّد (Singularity Theorems) اللي توصل ليها بينروز (Penrose) وهوكينج (Hawking) بعد كده ورت ان ده كلام غير دقيق، وان وجود المتفرد يكاد يكون سمة اساسية لأي نموذج كوني في إطار النظرية النسبية العامة.
[3] فرع الفيزياء اللي مختص بدراسة خواص المادة لما طاقة التفاعلات بينها بتكون كبيرة.
[4] اشعاع الخلفية الماكروي ده الاشعاع الكهرومغناطيسي اللي اُكتشف بالصدفة في الستينات، واللي اتفهم بعد كده انه بيمثل الوهج بتاع الكون المبكر لما درجة حرارة الكون كانت مرتفعة.
[5] المقصود بيها التأثيرات اللي ليها علاقة بعالم الجسيمات الاولية واللي بتحكمه قوانين ميكانيكا الكمّ.
[6] الجاذبية الكمّية هتكون الاطار الواحد اللي ممكن جواه نفهم كل تفاعلات وقوى الطبيعة مع بعض، سواء التفاعلات اللي بتحكم العالم الذري الكمّي أو التفاعلات اللي بتحكم حركة الكواكب والمجرّات.






