عفواً د. خالد فهمي، الإخوان ليسوا جيراني – د.مينا منير
Mina Monier
An Egyptian British scholar of the New Testament and Early Christianity. He earned his PhD from King’s College London in the New Testament. He is a Senior Researcher (Seniorforsker) at the MF Norwegian School of Theology, in Oslo
جيرة الإخوان
تتميز هذه الذكرى من انتفاضة 25 يناير دوناً عن سابقاتها بأن العديد ممن برزوا في العمل العام على ضوئها ينظرون اليوم إليها بعين من النقد. تجمع الأصوات بأنه فعلياً لم يبقَ من أثرها شيء. فثمة خطأ ما أدى إلى وأدِها. هناك من بادر بإصدار ما أسماه بالمراجعات، على طريقة مراجعات الحركات الإسلامية في التسعينات. السيد حمدين صباحي ينشر هذه الأيام سلسلة من المقالات يعيد فيها النظر فيما أسماه بأخطاء النخبة، وهو أمرٌ محمود. فالنقاشات النقدية في حد ذاتها أمر هام، بغض النظر عن طبيعة وجدية هذا النقد، فمجتمعاتنا للأسف لم تعتَد على النقد الذاتي.
وهناك من ينظر إليها وهو يجتر مفردات التاريخ مرة أخرى دون نقدٍ. قد يكون ذلك سلبياً، إلا أني أراه أيضاً أمراً محموداً لأنه يساعدنا أن نرى مكمن العوار في السردية في مواجهة التغيرات الحادثة.
من ضمن الذين لم يغيروا رؤيتهم لسردية 25 يناير المؤرخ المرموق الدكتور خالد فهمي، الحاصل على الدكتوراه في التاريخ من جامعة أكسفورد، والمحاضر السابق في جامعة كامبريدج. وبالتالي فإن طرح الرجل يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، لكونه مؤرخ محترف. فقد طالعنا الدكتور فهمي في حوارٍ منذ أيام مع الصحافي المصري حافظ الميرازي بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لثورة يناير. طرح فهمي في الحوار الطويل رؤيته لطبيعة تركيبة السلطة في مصر وديناميكية الصراع بين مكوّناتها وطبيعة التوازنات التي أدت أخيراً إلى الوصول للوضع الحالي، وهو أمر لا أود مناقشته اليوم. إلا أن فهمي تعرض إلى أمرٍ شديد الخطورة، بل ومفصلي، في سرديته لما حدث وما كان يجب أن يحدث في يناير 2011 لكي نصل إلى ما رآه كحالة ديمقراطية وسياسية سليمة. ففي خضم الحديث عن موقفه من الجماعات الإسلامية يذكر فهمي أنه كان دائم النزول في كل مناسبات التظاهر، بما في ذلك تظاهرات 30 يونيو ضد حكومة الإخوان. إلا أنه لم يخرج في الثالث من يوليو وبالطبع لم يخرج فيما سُمي بمظاهرات التفويض.
وهنا يطرح فهمي موقفه من الإخوان. فهو يرى أن الخطأ في الأصل هو وجود خلاف بين الفصائل السياسية يؤدي إلى اللجوء للسلطة الأمنية. ويشبه علاقة الفصائل السياسية ببعضها فيما يشبه الجيران في العمارة. فلو دب خلاف ما مع جاره الإخواني يجب أن يصل إلى صيغة حوار قبل اللجوء إلى قسم الشرطة التي تمثل الدولة. وفي ضوء ذلك يعرّف فهمي علاقة القوى السياسية المختلفة بما في ذلك الإخوان كتيارات سياسية أقرب إلى بعضها من الدولة نفسها، وأن الإخوان مجرد فصيل وشريك في صناعة المشهد السياسي حاله حال أي حزب أو تيار آخر. ويذكّر فهمي مضيفه الميرازي بأنه، أي فهمي نفسه، علماني التوجه، أي أنه على النقيض مع الرؤية “السياسية” الإخوانية التي وصفها بالسطحية.
هذا التصور لم يكن في عرف الكثيرين ممن انتقدوا المشهد الثوري في 2011 مجرد خطأ أو نقطة خلاف جانبي، ولكنها كارثة حقيقية تطعن في شرعية ما يُسمى بثورة يناير بل وتجرّم معتنقيها إذا ما احتكمنا إلى الوطنية المصرية كمعيار. فعن أي عمارةٍ أو جيرة يتحدث الدكتور فهمي؟ هل هو يرى من استخدم السلاح لقتل الساسة والمخالفين على مر العقود، الملكي منها والجمهوري، حاله كحال تيار سياسي كالتجمع أو الوفد؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماهو إذاً تعريفه للبلطجي الذي يقتحم العمارة؟ بل والمذهل أن كل ما حدث بعد سقوط مرسي لم يُقنع أحد أن أولئك القطبيين لم يكونوا إلا ثلة من الإرهابيين الذين كان بالأجدر لما أسماه فهمي بالحراك الثوري أن يحدد موقفه منها: إما الدولة الوطنية أو دولة الخلافة.
ولعلي شخصياً أتذكر هذه الجيرة اللطيفة للإخوان في حياتي دون الاحتياج لتكرار التاريخ الذي يعرفه فهمي جيداً. فإني أتذكر جيداً حينما ذهبت إلى منزل صديقي القبطي القاطن في حي عين شمس للدراسة معه، فإذ فجأةً نسمع ثم نرى أمواج هادرة من النساء المنتقبات اللائي خرجن للاحتفال بفوز المرشح الإخواني في الانتخابات البرلمانية سنة 2005، وقد حملن مشاعل تذكرنا بالمشاهد السريالية كليلة الكريستال ناخت للحزب النازي، أو خروج أهل القرية بالمشاعل في فيلم شيء من الخوف. لكن المستهدف هذه المرة لم يكن يهود برلين أو عتريس، وإنما أقباط عين شمس، حيث كانت النسوة يرددن بأعلى صوت وهن يحملن المصاحف والمشاعل: لا إله إلا الله، النصارى أعداء الله.
لم يكن هذا المشهد المفزع الذي ألقى بالخوف في صدور أقباط الحي إلا جزء من كل، هو السلوك العام للإخوان في مصر. فما أن عدت إلى المنزل متأخراً في تلك الليلة حتى علمت بأنهم هاجموا كنيسة في آخر ذلك الشارع، ثم كنيسة أخرى في الإسكندرية وهكذا دواليك.
لم يكن سلوك الإخوان الإرهابي قاصراً على الشوارع، بل داخل المؤسسات. فلن أنسى في فترة دراستي في كلية الهندسة تحرش وتنمر أعضاء أسرة الفاروق الإخوانية بالأقباط، بل وحتى المسلمات من غير المحجبات في تلك المرحلة التي عُرفت بالصحوة. فأي جيرة وأي حوار الذي يتكلم عنه الدكتور فهمي تحديداً مع هؤلاء الذين حملوا السلاح وروّعوا مخالفيهم حتى في عصر مبارك نفسه؟ إلا أن هذه القراءة لها سياق آخر، أظنه أدق في إفصاحه ما لا يريد البعض ذكره.
ما لم تقله نخبة الثورة
في 2009 رأينا البرادعي يعود إلى مصر والأمل يلتف حوله من كل جانب في مواجهة الرجل الجاثم على السلطة لمدة ثلاثة عقود بقبضةٍ أمنية مخيفة. وما أن ظهر البرادعي كل جمعة في مسجدٍ ما بصحبة الكتاتني والعريان حتى تبدد الحلم عند الكثيرين ورأوا مستقبلاً أشبه بالثورة الإيرانية يروم في الأفق.
ففي هذا العام ذهبت إلى المملكة المتحدة لاستكمال دراستي العليا. أتذكر أن البرادعي قد زار حينها لندن للقاء أعضاء الجمعية الوطنية للتغيير في مقرها القاطن حينها في شارع فكتوريا بوسط لندن، وقد أعددتُ له حينها ثلاثة أسئلة محددة ستكشف إجاباته عليها ما يُبطنه، وقد كانت كالآتي:
- ما هو موقفه من المادة الثانية من الدستور، وهي الخاصة بهوية الدولة ودور الشريعة الإسلامية، وقد كانت حينها مثار جدل حتى في وسط الحزب الوطني الحاكم؟
- ما هو موقفه من تنظيم الإخوان المسلمين ورؤيتهم لدولة الخلافة؟
- ما موقفه من اتفاقية السلام مع اسرائيل؟
حينما وصلته الرسالة، أو على الأقل لمن حوله، تم تجاهلها بالكامل وإلقاؤها في سلة المهملات. حينها كتبت مقالاً فيه هذه الأسئلة وظهر بالإنجليزية والعربية في مصر والولايات المتحدة، فلم يجد الرجل بداً إلا أن يجيب عليها في تسجيل وضعه على موقع الجمعية الوطنية للتغيير حينها. وفيه يقول إن الإخوان “حزب ديني” حاله حال الحزب الديمقراطي المسيحي في ألمانيا. حينها علمت أن الأمر بالنسبة له لم يكن مجرد سذاجة أو جهل بموقف الإخوان من فكرة الدولة الوطنية، وإنما لمعت أعين الرجل حينما رأى كم التوقيعات الهائل الذي نجح التنظيم الإرهابي في جمعه، فتغاضى عن أهم وأخطر قضية. يذكرني هذا بمشهد عادل إمام (فتحي نوفل) ورياض الخولي (علي الزناتي) حينما التقيا سراً في حديقة الأزبكية في فيلم طيور الظلام، وكان الأول يمثل الحزب الوطني بينما يمثل الثاني تنظيم الإخوان، فقال له عادل إمام إن الخلاف بينهما هو “قضية بلد”.
أما البرادعي فقد رأى أنه لا ضير في ليّ عنق الحقيقة قليلاً بتشبيه الإخوان بحزب سياسي كالحزب الألماني المذكور، والذي يعمل في إطار دستور وقانون لا يعرف تشريعاً دينياً ويؤمن تحت ظله كل الأحزاب بالدولة الوطنية.
لا يخدم العبد سيدين
لقد قررت نخبة الثورة تقزيم القضية الوطنية من أجل التحالف مع من لا يؤمن لا بالسلام ولا بالوطن، وهنا نجدهم هم أنفسهم يلومون الشعب في اللحظة الفاصلة على اختيار “الشرطة” للتدخل وإنقاذهم من البلطجي القاطن في العمارة وقد استحوذ ذلك البلطجي حتى على مفاتيح الأبواب وبدأ يلقي بالجيران من النوافذ ويعلن أنه سيحول العمارة لدار مناسبات كبير، فعن أي جيرةٍ يتكلم فهمي؟
يقول المسيح: لا يخدم العبد سيدين، ونقول في تعبيراتنا الشعبية: أبو بالين كداب. لقد وقف الثوريون في لحظةٍ فاصلة أمام خيار الدولة الوطنية المصرية المبنية على وحدة الدولة وسيادة أراضيها والمساواة بين أفرادها الذين يستمدون هويتهم الوطنية من استقرارهم على نفس تلك الأرض منذ 7000 عاماً، أو خيار التحالف مع من يؤمن بأن الوطن لا يزيد عن كونه “حفنة من التراب العفن”. فلا يمكن الجمع بينهما إلا إذا كانت النية في الأصل استخدام واحدة علناً لخدمة الأخرى ضِمناً.
فالإخوان لم يكونوا مجرد “جار سَوّ” في عمارة الوطن، بل كان التنظيم وظلّ جماعةً إرهابية خارجة عن القانون، لا بموجب ما ارتكبته من جرائم مريعة منذ 2013، ولكن منذ أن نادى بمبادئها الأصلية حسن البنا حينما دعت للعنف جهاراً نهاراً لإقامة الخلافة التي تتجاوز مفهوم الوطنية المستحدثة لاتحاد المسلمين في الدول المختلفة مما “ينتج عنه الاجتماع على الإمام الذي هو واسطة العقد، ومجتمع الشمل، ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض” (الرسالة 14 لحسن البنا).
لقد شاح النخبويون وجوههم وغضوا البصر عن المستضعفين والأقليات الدينية والفكرية من أجل الوصول للكرسي، وقرروا أن ينصبوا المحاكمات الأخلاقية لمن غلّب الهوية الوطنية في أزمةٍ خلقها النخبيون أنفسهم حينما عملوا كعرابين للإخوان، تماماً كما حدث في الثورة الإيرانية.
عفواً د. خالد فهمي، فالإخوان ليسوا جيراني.
المؤلف في سطور:
مينا منير أستاذ مساعد (Seniorforsker) في الكلية النرويجية للدراسات العليا بأوسلو، النرويج. حصل على الدكتوراه من جامعة لندن في المملكة المتحدة، في التاريخ.