زكريا محيي الدين: المعركة الأخيرة

Mina Monier

An Egyptian British scholar of the New Testament and Early Christianity. He earned his PhD from King’s College London in the New Testament. He is a Senior Researcher (Seniorforsker) at the MF Norwegian School of Theology, in Oslo

يبدو أن القدر قد خطط للشاب المصري زكريا محيي الدين أن يلعب دور المنقذ في أحلك الظروف منذ حصار الفالوجة في النكبة، سنة 1948 حتى اعتزاله العمل السياسي واختفائه عن الأنظار في مارس 1968، وهو لم يبدأ عقده الخامس.

ففي حصار الفالوجة، في حرب 1948، نجح زكريا محيي الدين في المهمة الخطيرة التي أوكلتها له القيادة العامة، وهو باختراق الحصار والوصول للقوات المصرية بالمؤمن والعتاد اللاسلكي للتواصل. لقد نجح محيي الدين في تضليل الإسرائيليين مرتين، وفي الثالثة قرر البقاء مع القوات المحاصرة، وبقي معها. فحصل على ميدالية محمد علي الذهبية على شجاعته، وقدراته الفذة، لتكون معركته الأولى التي يلعب فيها دور المخلّص، وهو لم يتم بعد عامه الثلاثين.

بعد انضمامه للضباط الأحرار، لعب محيي الدين دورَه التاريخي في وضع خطة الإنتشار والسيطرة ليلة الثورة. لقد كان زكريا محيي الدين الأجدر بحكم خبرته وتدريسه للإستراتيجيات والتخابر في الكلية الحرية لوضع الخطة. اليوم حينما تشاهدها، تدرك حجم معرفته المعقدة بكل صغير وكبيرة بجميع أفرع الأسلحة، مع ضبط دقيق جداً لتوقيتات السيطرة، أي الشوارع التي سيتم قطعها وبكم مجند ومن أي سلاح وبأي أسلحة إلخ. في النهاية نقرأ في الخطة تشكيل مجلس يسمى بتنظيم “الرئاسة العامة” يقوم فيه محيي الدين، عبد الناصر، عبد الحكيم وكمال (غير واضح إن كان المقصود كمال رفعت أم كمال الدين حسين)، كل منهم يقوم بمهمة قيادية محددة. أما زكريا ستجد اسمه على رأس المجموعة (أي قبل عبد الناصر نفسه)، وليست هناك مهمة محددة إلى جانب اسمه، فيما يعني أنه على الأرجح سيلعب ما يشبه دور رئيس المجموعة.

حينما قام محيي الدين نفسه بشرح الخطة للضباط، والتي أشّر عليها جمال بالموافقة، قيل في أكثر من مصدر أنه بعد أن ترك الغرفة ظهر على عبد الناصر ملامح الإمتعاض وقال لهم فيما معناه: هو فاكر نفسه قائد الثورة وللا إيه.

هذه الكلمات وصلت لمحيي الدين وحُفرت في ذاكرته حتى لقائه بمصطفى الفقي في ملطع الألفية بفيينا، حين كان الأخير سفيراً في النمسا، وقص عليه تلك الرواية ليوضح له طبيعة علاقته بعبد الناصر من بعد ذلك.

لقد أدرك محيي الدين حينها طبيعة العلاقة التي يجب أن تكون بينه وبين عبد الناصر. فهما ليسا خليلين كما هو الحال بين جمال وعبد الحكيم، إلا أن جمال يدرك أيضاً أن محيي الدين هو شخص قوي الشكيمة، نظيف اليد ويُعتمد عليه في أحلك الظروف. كانت هذه الصفات سلاحاً ذا حدّين. فرغم احترام جمال وتقديره لكفاءة وشخص زكريا من جانب، إلا أنها أيضاً تحمل تهديداً مبطناً لزعامته إذا ما اختلفا في أمرٍ ما.

هذا يفسر إصرار جمال الذي يصل إلى حد العِند في أن يتولى عامر محدود الذكاء والإمكانيات قيادة الجيش، رغم اتفاق أعضاء مجلس قيادة الثورة على كفاءة زكريا في تولي الجيش. وكانت هذه خطيئة جمال الأولى، التي حولت حكمه إلى جحيم وتسببت أخيراً في التراجيديا الإغريقية التي يعرفها القاصي والداني سنة 1967.

زكريا احترم المسافة بينهما، وتفهم قلق جمال، أما جمال فقد أدرك أنه طالما قبل زكريا البقاء في الظل، فيمكن الإعتماد عليه في تولي أدق الملفات، وقد كان. فقد تولى زكريا تأسيس أخطر أجهزة النظام الناصري، وهو جهاز المخابرات العامة، ثم قام بتولي ملفات الأمن جميعها.

وفي أحلك أيام مصر، كان محيي الدين هو المنقذ القادر على التصرف. فالدخول الكاسح لقوات العدوان الثلاثي مصر، وبينما كان ضباط الثورة يتكلمون في مسألة الإنتحار، وفي حالة الهلع المعتاد الذي أصاب عامر، كان زكريا في الميدان يضع خطة المقاومة الشعبية ويوزع السلاح وينظم الجبهة للدفاع عن القاهرة إذا ما وصل الإنجليز إليها. ثم نجح بالدفع بالمقاومة جنوب بورسعيد لإبطاء الهجوم الفرنسي الإنجليزي بعد أن أبيد جيش عامر.

وبالرغم من إرث الفشل المستمر لعامر، فقد كانت فضيحة هروبه من سوريا بعد الإنقلاب عليه غير كافية لإيقاف استفحال نفوذه الذي تجاوز نفوذ جمال نفسه بعد أن أحكم سيطرته على الجيش صار تهديداً لجمال. ففي العام 1962 علم زكريا ورجاله أن عامر بصدد الإنقلاب على جمال بمناورة تبدأ بتقديم الإستقالة والمناداة بالديمقراطية.

وبينما جمال غارق في الخوف من هذا التهديد، يضع له زكريا خطة ناجحة تقلب الطاولة على عامر وترجئ محاولة الإنقلاب لأعوام لاحقة. وبينما كان جمال عاجزاً أمام فشل حكومة علي صبري الإشتراكية في الدفع بالإقتصاد، يأتي محيي الدين ويعيد هيكلة النظام الإداري بتأسيس الرقابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات ثم يتولى الحكومة لمدة عام كشف فيها عوار النظام الإشتراكي ويبدأ في وضع خطة بديلة تتيح لمصر أن تتحول لدولة قادرة على التصدير وجلب العملة الصعبة بالإستثمار المباشر. مرة أخرى، يخشى جمال من مواجهة الإصلاحات فيقرر التخلص من زكريا ككبش فداء.

ثم يأتي العام 1967 ويتكرر سيناريو 1956: ينهار الجيش تماماً ويصبح سقوط القاهرة مسألة في يد الإسرائيليين إذا ما أرادوا التقدم، كما أقر جمال نفسه. في تلك اللحظة يهلع عامر ويبكي ويصرخ، ويصاب رجاله الذين عينهم بطريقة العمودية التي تعلمها في قرية أسطال، بالهستيريا.

هنا تكشف لنا الوثائق الخاصة باجتماعات اللجنة التنفيذية للاتحاد الإشتراكي أيام 3 و 5 أغسطس لجوء جمال، بل وقادة الجيش، لزكريا مرة أخرى للتصرف. هرع وزير الحربية شمس بدران لزكريا وأبلغه أن مخازن الجيش كلها تحت أمره وأنه يمكن أن يوفر لهم آلاف الزجاجات من المولوتوف لكيف يواجه بها دبابات إسرائيل. يحكي زكريا هذه القصة بسخرية ممزوجة بالمرارة ، حينما يصل إفلاس القادة لدرجة أن يقترحوا مواجهة دبابة بزجاجة مولوتوف، والمطلوب من زكريا أن يتولى ذلك، فقد بلغنا حداً غير مسبوق من العبثية.

لا يجد جمال من يثق به ليعطيه صورة كاملة عن الوضع، لأن قادة الجيش كما سنعرف لاحقاً، هربوا مع عامر وقرروا الإنقلاب على جمال. فيلجأ الأخير، مرة أخرى لزكريا الذي يتولى التنسيق مع ما تبقى من القادة المحترفين لتحقيق الحد الأدنى وهو تأمين الضفة الغربية للقناة، وقد كان.

وبينما ينشغل عامر بالإنقلاب على جمال، يجد زكريا نفسه مرة أخرى مسئولاً عن تفكيك القوة التي تتبع عامر، وقد نجح بذلك من خلال نظرية فرق تسد. مرةً أخرى يتولى زكريا الملف بالكامل، فيلقي بخطة ساذجة وضعها أمين هويدي وسامي شرف حول كيفية القبض على عامر في شارع صلاح سالم، في سلة المهملات، ويضع الخطة التي ستتم بالفعل بجذب عامر للقاء جمال وفي نفس الوقت القبض على رجال عامر وتفكيك الانقلاب بهدوء في جنح الظلام، وبدون نقطة دم.

كل هذا يأتي في سياق إدراك جمال أخيراً بكفاءة وقوة زكريا لمشهودة لها خارجياً وداخلياً حتى أنه اختاره ليخلفه في خطاب التنحي الشهير.  ولكن مع عودة جمال “للزعامة” كان دور زكريا الأخير هو تشخيص مرض النظام وطرح رؤية لنظام جديد قادر على نقل مصر لوضع أقوى اقتصادياً وعسكرياً.

الديمقراطية

هذه كانت المهمة الأخيرة لزكريا. في وثائق اجتماعات اللجنة التنفيذية (وسم: سري جداً)  يطرح زكريا ملخصاً لمرض النظام القائم على ما أسماه بنظام “الخوف.” يضيف إلى أن الفرد المصري يشعر بحالة من اللا مبالاة لأنه ليس شريكاً في النظام الحاكم. بل أن القضية تتجاوز تنحية الشعب عن النظام السياسي إلى تنحيته حتى عن النظام الاقتصادي بسبب نظام الإتحاد الإشتراكي الذي يزرع ثقافة التنمر على الرأسمالية والرأسماليين، فمجرد أن يوصم شخص بأنه يملك رأسمال يريد أن يديره في مشروع بأنه “رأسمالي” فهذا كفيل بجذب قدر من العداوة اتجاهه تجعله يتراجع سريعة ويخفي أمواله “تحت البلاطة.”

 

“لا يمكن تحقيق العدالة الكاملة، لا في الرأسمالية ولا الإشتراكية”

تحرير المجتمع من الخوف، السماح بالمشاركة السياسية والإقتصادية في الحياة هي إذاً روشتة العلاج. أما على أرض الواقع فإعادة النظر في شركات القطاع العام الغير قادرة على الكسب، في البيروقراطية والدعم المبالغ فيه، كلها ستفاقم الوضع إلى درجاتٍ لن يتحملها النظام خاصةً مع الزيادة السكانية المهولة والإنكماش الاقتصادي الشديد والناجم عن خسارة مصر لمدخول قناة السويس ومصادر البترول والغاز في خليج السويس وسيناء بعد الحرب.

المذهل في الأمر أن عبد الناصر كان يتفق معه إلى حدٍ كبير، كما تُظهِر الوثائق. بل يذهب جمال إلى أبعد من ذلك في مسألة الديمقراطية ليعلن أنه لن يكون هناك إصلاح حقيقي بدون إعادة الحياة الحزبية، ويقترح البدء بحزبين، على يمين ويسار النظام، بل ويجب أن يكون النظام نفسه مُنتخباً من قِبَل الحزب الناجح في الانتخابات وإلا كان نظام الأحزاب المقترح شكلياً.

هذه الحماسة التي أظهرها جمال اتجاه أفكار زكريا، بدأت تتحطم كما يظهر تدرُّج الوثائق التاريخي: فبينما كان الاتفاق على تلك المبادئ في أغسطس 67 كبيراً، نرى في الوثائق أنه كلما استعاد جمال ثقته في نفسه بزيادة قوة الجيش على الجبهة وكسب الدعم الخارجي، يميل مرةً أخرى نحو أقصى اليسار المتمثل في مجموعة علي صبري.

نرى قمة العبثية في وثائق جلسات فبراية ومطلع مارس 68 حيث يقر جمال أنه لا يقف على الحياد بين ما أسماه “زكريا اليميني بتاع الديمقراطية” وعلي صبري، بل إنه يميل لاشتراكية صبري، ليس فقط لأسباب أيديولوجية بل أيضاً لأنه لن يستطيع أن يواجه الشارع بأي قرارات تخص رفع الدعم، بالرغم من إقراره بأن زكريا (وصدقي سليمان) محق بالأرقام أن الوضع سينفجر اقتصادياً.

نصل إذاً إلى نقطة فاصلة، ففي 20 مارس يخرج زكريا من اللجنة التنفيذية ويعتزل إلى الأبد بعد أن أيقن أن جمال لم يتعظ من هول كارثة 67 وأنه عاد للمربع الأول تحت تأثير نشوة حرب الإستنزاف.

يظهر ذلك في خطاب استقالة زكريا الذي اختفى نصه من خزنة جمال عقب موته، والذي قيل أنه يحمل في طياته 14 صفحة يواجه بها زكريا كوارث النظام وتبعاتها على المدى الطويل. فيكون رد جمال ببيان 30 مارس الشهير، والذي أذاعه على الشعب.

في محضر لقاء ثروت عكاشة (وزير الثقافة) بعبد الناصر في جلسة مجلس الوزراء في مارس 1968، يتساءل ثروت حول اختفاء زكريا، ليرد جمال بالقول أنه لا يستطيع أن يشرح ذلك للشعب، فلو قام بذلك فإنه سيقوم ب”سب زكريا”، وأن زكريا على الأرجح سوف “يسب فيه” أيضاً وهو ما لا يقبله!

كانت هذه معركة زكريا الأخيرة والتي على إثرها اختفى تماماً، وتقول بعض المصادر أن آخر ما قاله لناصر هو أنه إن كانت الملكية قد فقدت شرعيتها بسبب هزيمة 48، فإن النظام القائم فقد شرعيته في 1967.

 

 

 

 

 

 

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *