مينا منير – جمال عبد الناصر والإعلام الخليجي: لماذا الآن؟
Mina Monier
An Egyptian British scholar of the New Testament and Early Christianity. He earned his PhD from King’s College London in the New Testament. He is a Senior Researcher (Seniorforsker) at the MF Norwegian School of Theology, in Oslo
تكاد تكون إحدى أغرب التقاليد الراسخة تقريباً في كل لقاءات الساسة الخليجيين و”المفكرين” في الخمس سنوات الأخيرة، سواء المتلفز منها أو المكتوب، هي حشر تعليق أو تصريح يهاجم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر. لسنا هنا بصدد الدفاع عن عبد الناصر أو الهجوم على هذه الشخصيات الخليجية، ولكننا بصدد ظاهرة تستحق النظر إليها بالفحص. فما الداعي لتكرار تلك التصريحات المحشورة حشراً، وبلا سياق واضح، في تلك البرامج والمقالات، خاصةً أن الرجل قد ترك دنيانا منذ أكثرَ من نصف قرن، وقد قام خلفاؤه بمحو سياسات جمهوريته بشكلٍ شبه كامل، فما بقي من جمهورية يوليو في مصر شيء، حتى أن الدولة المصرية اليوم لا تجد غضاضة في الإعلان عن قيام ما أسمته بالجمهورية الجديدة التي تجب ما قبلها بطبيعة الحال.
_______________
لا يمكن تفسير هذا الأمر إلا في ضوء نوع من تضارب المصالح الذي يقتضي التخلص من شيء مازالت ذكرى عبد الناصر تمتلكه وتؤثر به تأثيراً يستلزم هذا الهجوم الضاري عليه للتخلص منه. هنا لا نجد مفراً من استدعاء ذلك العداء القديم بين مشروع عبد الناصر والطموح الخليجي المتجدد اليوم في النفوذ الآخذ في الانبساط غرباً، بقيادة المملكة العربية السعودية. فليست محض صدفة أن يطلق الأمير محمد بن سلمان، وهو الحاكم الفعلي للمملكة، ما أسماه بالتحالف الإسلامي، في ديسمبر 2015، وهو نفس العام الذي بدأت فيه الحملة الضارية على عبد الناصر وحقبته. ولعلنا نتساءل هنا حول ما تستدعيه تسمية “التحالف الإسلامي” وهو نفس التحالف، وبنفس التسمية، الذي طرحه آيزنهاور على الشيخ سعود كبديل فعال وأكثر تأثيراً ونفوذاً عن الكتلتين السياسيتين القائمتين حينها في المنطقة: حلف بغداد الذي كان يتحرك تحت جناح النفوذ البريطاني الآخذ في الأفول، وحركة التحرر الوطني (التقدمية) التي قادها عبد الناصر. لم ينجح حينها التحالف الإسلامي من فرض نفوذه المرجو أمام طوفان التحرر الوطني الذي قاده عبد الناصر حينها، فكان إيقاف الأخير سواء بقتله أو التآمر على مشروعه حتمياً. إلا أن تلك المحاولات باءت بالفشل، على الأقل حتى يونيو 1967.
_______________
والحقيقة هي أننا يجب أن نكون ممتنين للقائمين على مشروع “التحالف الإسلامي” الجديد لصراحتهم وعدم الإجتهاد في تسمية المشروع اسماً آخراً يفقده الصلة بالمشروع الأصلي في خمسينات القرن المنصرم. هكذا نستطيع أن نفسر ظواهر عديدة منها مثلاً إدراك الخلاف القائم بين مصر والسعودية في نفس نقاط الصراع الجغرافي التي تصارع فيها عبد الناصر مع الملك سعود وخليفته فيصل: سواء سوريا في الحالة الأولى أو اليمن في الحالة الثانية. فلما هددت تركيا جارتها سوريا باحتلال حلب سنة 1957، ارتأى سعود حينها (بإيعاز من آيزنهاور) أن ميلاد التحالف سيتجسد في ذهابه إلى لبنان لعرض الوساطة بين الطرفين، فإذا نجح، سيكون النجاح للتحالف في أول اختبار إقليمي. وبينما قرر الملك سعود “الكلام”، أرسل عبد الناصر لواء مشاة لحماية حلب، فكان انتصاراً استراتيجياً لمشروع عبد الناصر على التحالف. ثم تتكرر المعركة في اليمن لتكون جولة أخرى قرر فيها ناصر، بحسب ما قاله في خطاب له سنة 1962، نقل المعركة إلى اليمن بدلاً من أن تكون المعركة في القاهرة.
_______________
تتكرر تلك المعارك في سوريا واليمن الممزقتين، بالرغم من أن مصر الجمهورية الجديدة أبعد ما تكون من جمهورية يوليو، لكن التحالف الإسلامي يتكرر على مرأى ومسمع من الجميع، ليس فقط على مستوى التسمية، ولكن على مستوى السياسة الإقليمية.
_______________
وبغض النظر عن تقييم مدى نجاح التحالف في ثوبه الجديد، إلا أنه لا يستطيع تقديم نفسه دون الحديث عن مشروع عبد الناصر. فمنذ صعوده للحكم، لم يخفِ الأمير محمد بن سلمان موقفه من عبد الناصر، فقد لامه على انتشار الإخوان والرجعية الدينية في المملكة، والغريب في الأمر أن كثير من الكُتاب في مصر وخارجها تبنوا هذه السردية التي لا تقوم على أساس تاريخي. فعلاقة الإخوان الدافئة بالمملكة سبقت حتى ثورة يوليو، ويعرف الباحثون جيداً أن المملكة، بل والكويت أيضاً، هي التي استدعت الإخوان منذ العام 1947، وهي التي آوتهم، بل وعرضت الوساطة لتخفيف الأحكام عليهم في مصر قبل وبعد 1952، بل وقدمت كتابات أمثال سيد قطب في مناهجهم بحرية كاملة لا يمكن تبريرها بمبررات واهية تصف السعودية كأنها دولة مسلوبة الإرادة فاقدة للأهلية لا تملك إلا أن تتقبل الإخوان وتذعن لأفكارهم.
_______________
فإذا أرادت المملكة نفض غبار الرجعية وتقديم نفسها كنبراس للتقدمية والحداثة، فلا يمكنها فعل ذلك دون مواجهة جادة لتاريخها، فلا يمكنها أن ترتدي ثوب التقدمية وتلوم التقدميين على الرجعية التاريخية التي عانت منها. والعجيب في الأمر أن جمهورية يوليو التي ألغت المحاكم الشرعية، ومكنت المرأة من الأستاذية الجامعية والوزارة والبرلمان، والمساواة في الأجور، بل وقدمت كماً هائلاً من القوة الناعمة الحقيقية، وليس مهرجانات تسوق ونوافير ملونة، يتم اتهامها اليوم بأنها إخوانية وأن عبد الناصر كان إخوانياً والتندر على ذلك في برامج خليجية اليوم، الأمر الذي لا أعرف صراحةً إن كان مدعاة ضحكٍ أم رثاء.
_______________
ولكن أغرب تلك المواقف الخليجية الأخيرة يأتي من الكويت، في برامج سعودية طالما انبرت لدفع ضيوفهن للتهكم على جمهورية يوليو. فالسياسي الكويتي محمد الصقر خرج علينا لاحقاً في برنامج السطر الأوسط ليقول لنا أن عبد الناصر كان جاهلاً، وأن جهله هو الذي تسبب في دمار المنطقة العربية، أما عبد الله النفيسي فقد وصفه بأنه لم يكن أكثر من مجرد بلطجي.
_______________
هنا يحدثنا الدبلوماسي البريطاني أنتوني نتنج الذي عاصر عبد الناصر في مصر أن ناصر كان رجلاً واسع الاطلاع والثقافة، حتى أنه علم نفسه بنفسه الإنجليزية لما شهد نتنج بنفسه كيف كان عبد الناصر يجمع الكلمات الإنجليزية في هوامش كتبه ليحفظها، بل واستطاع الإلمام بأرفع أذواق الموسيقى الكلاسيكية والأدب، وكان يقرأ الكتابات الإنجليزية بنهمٍ شديد حتى أنه لم يتوقف عن قراءة كامل الكتب إلا عندما انشغل بشدة في إعادة بناء الجيش بعد 1967، فكلف سامي شرف مدير مكتبه لإعداد ملخصات يومية بمحتوى الكتب التي لا يملك من الوقت لقراءتها. في علاقة عبد الناصر بالمثقفين والثقافة ما جعله قادراً بشكل مباشر على مناقشة وقبول الإختلاف مع مثقفي مرحلته التي تعتبر المرحلة الذهبية في الثقافة المصرية.
_______________
عبد الناصر لم يكن ابناً لأسرة تملك بئر نفط لكي يتم إرساله للدراسة في أمريكا كما حدث مع محمد صقر أو الإخواني عبد الله النفيسي، لكنه في زمنه وفر التعليم لأبناء الكويتيين، ومنهم النفيسي، الذين أتوا أفواجاً في الخمسينات والستينات للدراسة في مصر. عبد الناصر هو الذي أسس لما عُرف ببيت الكويت، وهو قصر لأحد الأثرياء الذي تم تأميمه (سيصير لاحقاً سفارة الكويت)، وحوله لمنزل يستضيف الكويتيين لدراسة العلوم المختلفة في مصر، وخرج من “بيت الكويت” عشرات الوزراء ورجال الدولة في الكويت، فهل كان هذا ضرباً من ضروب الجهل؟ وإن كان المقصود من الجهل أمراً يخص السياسة، فلعلي أتساءل، هل كان موقف عبد الناصر من تهديد عبد الكريم قاسم بضم الكويت سنة 1961 جهلاً؟ لا أعرف تحديداً أي دمارٍ يتكلم عنه الصقر حينما قام أميره في ذلك العام بالاستنجاد بعبد الناصر في رسالة يطالبه فيها بالتدخل لحماية الكويت. اليوم نرى في الوثائق المنشورة عن لقاء وفد عبد الكريم قاسم بعبد الناصر أن الأخير قد هدده بأنه سيرسل الجيش المصري للذود عن الكويت. فلما سأله قاسم لماذا يقف مع إمارة “رجعية” ضد الثورة العراقية، أبلغه ناصر بأن حماية الكويت يصون استقلالها الذي حصلت عليه في ذلك العام، وأن عدم تدخله سيعني دخول القوات الأمريكية لحماية مصالحها النفطية في المنطقة بلا رجعة. فأنقذ عبد الناصر “بجهله” دول الكويت حينها، لكن بالطبع لم يعش طويلاً ليرى كيف تحول الخليج بأسره لما كان يخشاه ناصر.
_______________
على أي حال، فإن كان نجاح وتقدم الخليج وازدهاره هو الهدف المرجو من سياسته الآن، وهو ما نتمناه، فإن ذلك النجاح لن يتحقق على أكتاف معارك دونكيشوتية مع شخصية تاريخية ما بقي من إرثها إلا مجموعة من القيم والعبر والدروس فيما نجحت فيه وما أخفقت. وبالتأكيد لن يكون تقدم الخليج أيضاً من خلال افتتاح المزيد من مولات التسوق ومهرجانات هلا فبراير ومارس وأبريل، فإن كان من بدٍّ لاستدعاء تجربة يوليو، فعلى الخليج أن يرى فيها ما فيها من نجاحٍ على المستوى الفكري والثقافي، واستلهامه، إن أمكن. وفي ضوء الهجوم المستمر على عبد الناصر، يستمر أيضاً تساؤل الشاعر أحمد فؤاد نجم قائماً: “مين دا اللي نايم وساكت، والسكات مسموع؟”