12 e1740869448978

تكوين التوراة – الفصل الثاني عشر: المُفارقة الكُبرى والمُحرر الأخير – مايكل لويس

المقال رقم 12 من 12 في سلسلة تكوين التوراة

بعد انهيار مملكة يهوذا سنة 587 قبل الميلاد، كان كتير من اليهود تم سبيهم لبابل وكتير منهم هرب لمصر، وممكن يكون البعض فضلوا موجودين في اورشليم، فترة السبي البابلي استمرت لحوالي 50 سنة، الـ50 سنة دول احنا منعرفش عنهم حاجة تقريبًا غير حاجات بسيطة جدًا، مفيش في الكتاب المقدس تأريخات للي حصل في الفترة دي، الكتب اللي اتكتبت في الفترة دي، زي سفر حزقيال او سفر إرميا، هي المصادر الوحيدة تقريبًا عن الفترة دي ومش بتدي معلومات كافية وقوية عن تاريخ الشعب في الوقت دا، علم الآثار برضو مش بيكشف حاجات كتيرة، حاجات بسيطة بس اللي بيكشفها عن الـ50 سنة دول.

كنت قلت قبل كدا ان فكرة ان إله شعب مُعين يكون ليه إله نظير عند شعب آخر كانت بتساعد في تأقلُم الجماعتين مع بعض، زي فكرة زيوس وجوبيتر عن اليونان والرومان مثلًا، طيب دلوقتي اليهود حصلتلهم كارثة واتشتتوا في الأرض، البعض اصبح موجود في بابل والبعض اصبح موجود في مصر، هل يهوَه كان ليه إله نظير عند الشعوب دي؟

الاجابة على السؤال دا صعبة، ومفيهاش اتفاق تام بين المؤرخين على ماهية الدين العبراني في الوقت دا، بحسب كتاب الملوك احنا بنلاحظ ان في معظم الاوقات اليهود كانوا بيعبدوا آلهة مختلفة، مفيش غير استثناءات بس في تاريخهم اللي بيصف فيها سفر الملوك ان اليهود عبدوا يهوَه بس زي في فترة حزقيا ويوشيا الملك، بنلاحظ كمان ان في تعبرات كتير جدًا من اسفار العهد القديم او المزامير ان يهوَه هو “إله الآلهة” أو التعبيرات الشبيهة اللي بتوضح ان يهوَه مش هو الإله الوحيد، لكنه الإله الأعلى والأقوى، أو الوحيد الجدير بالعبادة، لكن مش بالضرورة الإله الوحيد الموجود، الفترة المُبكرة من تاريخ الشعب العبراني مكانتش فترة بيعتقدوا فيها بوجود إله واحد بنفس المعنى بتاعنا دلوقتي، الدين العبراني مكنش Monotheistic، لكن الصورة اللي بيقدمها سفر الملوك او الكتب المُبكرة هو انه احد انواع الـMonolatrism، بمعنى ان في عدة آلهة، لكن الإله الوحيد الجدير بالعبادة هو يهوَه، بل ان الصورة دي مكانتش منتشرة لكن كان اليهود بيعبدوا عدة آلهة لحد فترة السبي تقريبًا ومحصلش انهم عبدوا إله واحد بالشكل دا غير في فترات معينة قليلة زي اللي تم ذكرها، وبعد السبي ابتدا الموضوع ياخد شكل الـMonolatrism بشكل واسع، والموضوع متحولش للاعتقاد بإله واحد بشكل الـMonotheism غير في عصر مُتأخر ممكن يوصل لعصر المكابيين في القرن الثاني او الثالث قبل الميلاد بس.

زي ما وضحت قبل كدا برضو ان (إيل)، كان هو إله الكنعانيين، وان فكرة ان إله العبرانيين زمان كان هو إيل كانت فكرة بتساعد في تأقلم شعب مملكة اسرائيل في الشمال في التأقلم مع الكنعانيين في الوقت دا، لما دا حصل وتم اعتبار إله العبرانيين مُكافيء لإله الكنعانيين (إيل)، تم عبادة بعض الآلهة الأُخرى مع يهوَه (إيل)، اشهرهم الالهة اشيرا (أو عشتاروت عند البابليين، فينوس عند الرومان، افروديت عند اليونان). مثلًا بنلاقي انه اليهود اللي هربوا لمصر في فترة السبي البعض منهم كان بيعبد يهوَه في معبد اسمه “معبد إلفنتين- Elephantine Temple” كان موجود في جزيرة إلفنتين في اسوان، المعبد دا كانوا بيعبدوا فيه 3 الهة، يهوَه، وعناة (إلهة كنعانية، ومدينة عناتوت اللي سليمان نفى أبياتار الكاهن ليها كانت متسمية على اسم الالهة عناة، وكانت عناة احد زوجات الإله الكنعاني إيل)، وكانوا بيعبدوا الإله خنوم (الإله المسؤول عن فيضان النيل عند القدماء المصريين، واللي كان بيُعتقد إنه هو الإله اللي بيخلق الاطفال من طمي النيل ويضعهم في ارحام الأمهات، فكان بيتم اعتباره إله للخصوبة برضو).

لكن مش كل اليهود كانوا بيتعبدوا ليهوَه بالشكل دا (وكتير منهم كان بيعاني وبيُضطهد بسبب ان يهوَه بالنسبة ليهم مكانش ليه نظير عند الشعوب الأُخرى)، المعبد دا اتدمر فيما بعد، والمصادر اللي بتعرفنا بوجوده هي مخطوطات (برديات) إلفنتين- Elephantine papyri.

بعد 50 سنة من انهيار مملكة يهوذا انتهى السبي البابلي، مملكة فارس قدرت تحتل مناطق كبيرة جدًا من العالم القديم، وكان منها مملكة بابل، ومصر، وسمح الملك قورش الكبير لليهود بانهم يرجعوا مدينتهم ويبنوا المعبد مرة تانية، وحاجات كتير من اللي اتاخدت من المعبد في السبي البابلي رجعت تاني ما عدا حاجة واحدة بس؛ تابوت العهد.

الغريب ان بعد الرجوع من السبي مفيش اي مصادر بتقول ايه اللي حصل لتابوت العهد، هل تم فقدانه ولا اتدمر ولا ايه اللي حصل؟ اللي بيحصل ان مفيش اي مصادر بتتكلم عنه خالص بعد فترة السبي، سكوت المصادر بالشكل دا عن ذِكر تابوت العهد بيُعتبر لغز عند كتير من المؤرخين، والبعض احيانًا ممكن ينفي تاريخيته للسبب دا.

اليهود لما رجعوا أورشليم مكانوش دولة مستقلة، لكنهم كانوا بيتعاملوا باعتبارهم مُقاطعة بسيطة تابعة لأمبراطورية او مملكة اكبر منهم هي مملكة فارس، وبالتالي مكنش عندهم ملك، وبرضو مفيش اي حاجة بتحكي بعد فترة السبي عن مصير السلالة الملكية لبيت داود، كل اللي بيتحكي ان ششبصر وزربابل (من نسل داود)، قادوا كتير من العبرانيين من بابل لأورشليم بعد انتهاء السبي، وبعد كدا مش بيتم ذكر ايه اللي حصلهم او حصل لنسلهم او للعائلة الملكية، ومع اختفاء المُلك اختفت النبوة، عصر الانبياء الكبار انتهى، والانبياء الصغار (الاثنى عشر) اخر واحد كتب فيهم كان في القرن الخامس قبل الميلاد وقت بناء الهيكل الثاني او بعده بفترة قصيرة مش اكتر.

لما رجع اليهود لأورشليم لبناء الهيكل كان في شخص هو اللي اصبح مسؤول بتعيين من الحاكم عشان يتم بناء الهيكل على ايده وتحت حُكمه واشرافه، الشخص دا هو عزرا الكاهن، وكان في شخص اخر بيساعده اسمه نحميا.

عزرا كان كاهن من نسل هارون، وكان كاتب ماهر جدًا، وتحت اشرافه هو ونحميا تم بناء الهيكل التاني، وبكونه هو اللي معاه السلطة فأصبح الكهنة اللي بيخدموا في الهيكل الثاني هما الكهنة اللي من نسل هارون.

عزرا لما جه لأورشليم كان معاه وثيقتين، وثيقة منهم من الملك بتوضح ان عزرا هيكون هو المسؤول عن بناء الهيكل الثاني وما إليه، والوثيقة التانية هي شريعة موسى، والمرة دي واضح ان شريعة موسى اللي كانت في ايديهم كانت هي نفس الكتاب اللي بين ايدينا دلوقتي.

الشخص اللي جمع التقاليد المُختلفة في تورآة واحدة بالشكل اللي في ايدينا دلوقتي بيتم تسميته بالـRedactor، او ممكن نسميه المُحرر الأخير، الشخص دا مكتبش حاجة من عنده تقريبًا غير نصوص قُليلة جدًا، في حاجة بنلاحظ انه عملها لما جه يرتب التورآة بالشكل اللي معانا دلوقتي، وهي انه بيبدأ الاسفار دايمًا بنصوص من المصدر الكهنوتي، سفر التكوين قصة الخلق اللي في أول اصحاح من المصدر الكهنوتي، نفس الكلام بيحصل في سفر الخروج، سفر الاحبار كله من المصدر الكهنوتي، ونفس الكلام بيحصل تاني في سفر العدد، مبيحصلش بس في سفر التثنية اللي ليه مصدر لوحده وهو المصدر التثنوي، وبنلاحظ ان المُحرر الأخير اللي جمع الاسفار دي ربطهم كلهم بشكل قصصي مُتسلسل، والاحداث اللي مكانتش فيه بينهم صلة مُباشرة ربط بينهم بسلسلة انساب، آدم ونوح على سبيل المثال بتفصل بينهم هوّة زمنية، تم الربط بينهم بلسلسة أنساب، وبالشكل دا ربط بين آدم ونوح، أو بين نوح وابراهيم، وبالشكل دا فالمُحرر الاخير ربط القصص ببعضها في اطار كهنوتي، احيانًا بيُعتقد ان سلسلة الأنساب دي في حد ذاتها كانت مصدر مُستقل اسمه كتاب الأنساب (The Book of Generations) تم استعماله من مؤلف التقليد الكهنوتي او المُحرر الأخير وتم فُقدانه فيما بعد.

وبالشكل دا تم جمع المصادر المُختلفة في نسق واحد، مكنش ينفع المُحرر الأخير يرمي اي تقليد منهم لإنه كان موجود في زمن كل التقاليد فيه اصبحت معروفة، وبالتالي كان لازم الأربع تقاليد يكونوا موجودين عشان يقدر يوحد الشعب مرة تانية بتقاليده المختلفة، ولكن مكنش ينفع يحط الاربع تقاليد كل واحد لوحده لإن بيظهر فيهم حاجات متناقضة، لإنهم اصلًا اتكتبوا عشان يكونوا ضد بعض، التقليد التثنوي (D) اتكتب ضد التقليد الكهنوتي (P)، اللي اتكتب عشان يكون ضد التقليد اليهوي-إيلوهيمي (JE)، اللي كل واحد فيهم اتكتب عشان يكون ضد الآخر، وبالتالي وحدتهم كانت ضرورة، المُحرر الاخير اخد قصص من تقليد وحطها ورا التقليد الاخر بشكل شبيه بتكوين لوحة فنية من ألوان مختلفة، وصاغهم في النهاية في قصة واحدة متسلسلة من بداية آدم لحد موت موسى، الكتاب الجديد دا، بالرغم من انه مُكون من تقاليد قديمة كلها مكتوبة في ازمنة من قبله بكتير، إلا ان ضم التقاليد دي مع بعض بشكل مُتداخل ومتواصل خلّى النصوص يبقى ليها معاني مُختلفة تمامًا عن المعنى اللي كانت النصوص دي بتقصده لما كان كل تقليد لوحده، بص على القصص دي كمثال:

  • قصتين الخلق في التقليد الكهنوتي واليهوَي مثلًا، في الاصحاح الأول اصبحت قصة الخلق الكهنوتية بتتكلم عن خلق الكون بشكل عام، بينما في قصة الخلق اليهوية في الاصحاح الثاني بتتكلم عن خلق الانسان بشكل خاص.
  • قصة ضرب موسى للحجارة بالعصاية في الصحرا، القصتين كانوا متناقضتين، واحدة بتطلع موسى باعتباره بطل، والتانية باعتباره شخص اخطأ او متكبر وكنتيحة اتمنع من دخول أرض الموعد، تم وضع كل قصة في سياق لوحدها عشان يقدر يضم القصتين في التورآة
    • قصة ابراهيم وتقديم اسحق كذبيحة، في الاصحاح الـ22 من التكوين ابراهيم بياخد اسحاق وقبل ما يذبحه الله بيُظهِر لابراهيم كبش فدا يذبحه بدل اسحق، وفي الاصحاح الـ23 وراه على طول سارة بتموت، كتير من المُفسرين شافوا موت سارة كنوع من الأسى لما شافت ابنها مُساق للذبح، مع ان قصة موت سارة مصدرها التقليد الكهنوتي، لكن قصة ابراهيم وتقديم اسحق كذبيحة مصدرها التقليد الإيلوهيمي، المعنى دا أكيد ولا اللي الكتب المصدر الإيلوهيمي قصده، ولا اللي كتب المصدر الكهنوتي قصده، وجايز ميكونش المُحرر الأخير هو كمان قصده، لكن لما تم وضع القصتين ورا بعض بالشكل اللي معانا دلوقتي، المعنى دا أصبح مُتاح.

وغيرهم كتير جدًا، المُحرر الأخير بالشكل دا واضح انه احتفظ بالتقاليد الأربعة، لكن من الواضح برضو ان الشخص دا اعطى أولوية للتقليد الكهنوتي وصاغ بقية التقاليد في سياقه بقدر الإمكان، الزمن اللي حصل فيه الكلام دا كان تقريبًا بعد انتهاء السبي لإن التقليد التثنوي اتكتب يا دوب قبل السبي بفترة مش طويلة وتم الانتهاء من كتابته بعد انهيار مملكة يهوذا، وبالتالي تجميع التوراة بالشكل دا تم مع بناء الهيكل الثاني، من شخص كان بيميل للتقليد الكهنوتي.

احد الاشخاص اللي كانوا بيتسموا بالصفات اللي ممكن تجمع التوراة بالشكل دا والتفضيل دا هو عزرا الكاهن.

عزرا كان موجود في الفترة دي، وكان من نسل هارون (الجماعة اللي انتجت التقليد الكهنوتي)، وكان في ايديه السلطة لبناء الهيكل الثاني بتوكيل من الحاكم، عزرا كان كاتب ماهر ومعروف بدراسته وتعليمه للناس لشريعة يهوَه، عزرا ببساطة بتنطبق عليه اهم المواصفات اللي موجودة في الشخص اللي ممكن يكون جمع التقاليد دي وانتجها في شكلها النهائي، لو مش عزرا اللي جمع التوراة في النهاية بالشكل دا، فالشخص اللي هيكون عمل كدا كان على الأقل على قُرب او اتصال مُبشار معاه، وبالشكل دا تم جمع التوراة في شكلها اللي بين ايدينا دلوقتي، وتم ضمها مع بعض بشكل قوي وماهر جدًا حتّى ان لمدة 25 قرن بعد زمن عزرا الناس هتفضل مُعتقدة انها كتاب واحد كتبه كاتب واحد، ومش هيبدأ الناس غير بعده بـ2000 سنة في العصور الوُسطى يبدأوا يشكّوا في محاولات الـharmonization اللي عملها القدماء وياخدوا الاختلافات اللي في التوراة على محمل الجد من البحث الأدبي والتأريخي، ويكونوا نظريات وفرضيات تحاول تفسر المشاكل اللي ظهرت من الاعتقاد دا، “الاسفار الخمسة لموسى” تم انتجاها بالشكل دا في حوالي القرن الخامس قبل الميلاد في فترة بناء الهيكل الثاني بعد انتهاء السبي، بعد الزمن اللي من المُفترض ان موسى عاش فيه (لو كان شخصية تاريخية بالفعل) بحوالي 8 قرون على الأقل.

جزء من سلسلة: تكوين التوراة<< تكوين التوراة – الفصل الحادي عشر: التقليد التثنوي – الإصدار التثنوي الثاني – مايكل لويس

موضوعات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *