تحليل لغوي لخطاب تنحي عبد الناصر
MA in Applied Linguistics and TESOL, Portsmouth University, United Kingdom. His current research areas are Critical Discourse Analysis, Gender Relations, Religious Literature, and Hermeneutics
بعد نكسه 1967 مُباشرة، خرج عبد الناصر يوم 9 يونيو بخطاب كتبه محمد حسنين هيكل وأعلن تنحيه عن رئاسة الجمهوريه. بعد الخطاب ده –ويُقال إن في أثناء الخطاب– خرجت الناس لشوارع القاهره وهتفت بإسم عبد الناصر وطالبته بعدم التنحي بهتاف “هانحارب .. هانحارب”. الخطاب عنوانه إنه خطاب تنحي ولكن تأثيره كان هتافات بتطالب عبد الناصر بالإستمرار وبالحرب. طبعاً من وجهة نظر قطاع كبير من المؤرخين بيشوفوها تمثيليه، يمكن زي ما مبارك نفسه في لقاء متلفز لمح للموضوع وقال “أنا أقدر أعملك تمثيليه وأقول أنا مش هاقعد، الدنيا تقوم مظاهرات ولا حاجه، يكسرولك، تبقا خربت الدنيا .. وأرجع أقول لأ] مش هامشي[. ف أنا مبحبش أعمل الحركات النص كم دي.” في البوست ده هانبص بص سريعه على خطاب عبد الناصر من ناحية تركيبه اللغوي، وطبعاً مش هاقدر أغطي كل حاجه فيه ولكن هانبص بصه سريعه على بعض النقط المهمه عشان نحاول نحدد الخطاب ده كان الهدف منه إيه بالظبط، وهل رد فعل الناس –اللي غالباً كان حد بيحركه على الأرض أساساً– كان متوافق مع محتوى الخطاب ولا كان رد فِعل طبيعي وتلقائي من الناس.
الخطاب مكون من 1639 كلمه. قسمت الخطاب ل 8 فقرات كل فقره 200 كلمه، ما عدا الأخيره كانت 239 كلمه. زي مانت شايف في ال table اللي في الصور، الخطاب إستخدم كلمات في صيغة جمع المُتكلم (نحن ومُشتقاتها) 84 مره، 56 منهم في أول فقرتين بس. طبعاً ده يوريك إن بداية الخطاب collective، يعني عبد الناصر –أو بالأحرى هيكل– بيتقدم في أول 400 كلمه كجُزء من الشعب اللي بيواجه الموقف كله كجُزء واحد. في المُقابل في أول 400 كلمه مفيش أي إشاره بضمير المُتكلم المُفرد (أنا ومُشتقاتها). على العكس بيزيد الكلام جداً بضمير المُتكلم المُفرد في آخر 3 فقرات بحيث بيظهر هو ومُشتقاته 41 مره من أصل 49. وطبعاً تقدر تخمن إن دي الفقره اللي جمال عبد الناصر بيعلن فيها تنحيه وبيختم خطابه. يعني الخطاب فيه تحول واضح من نحن (الشعب المصري والأمه العربيه لاحقاً) ل أنا (جمال عبد الناصر).
مدخَل الخِطاب عاطفي جداً وفي نفس الوقت يخلو تماماً من أي إشارات دينيه (الخطاب كله يخلو من الإشارات الدينيه، اللهم إلا آخر 3 جُمَل فقط). بيبتدي الخطاب بالتأكيد على القُرب ما بين عبد الناصر والشعب ولكنه مبيعملش التمييز ده عشان بعد كده يتكلم عن القرب، من الأول خالص في إتِّساق في التعبير ب “نحن”، وبيستمر في إستخدام contrast ما بين “أوقات النصر” و “أوقات المحنة”، “الساعات الحلوة” و “الساعات المرة”، وتعبيرات زي “نجلس معاً” و “نتحدث بقلوب مفتوحة” و “نتصارح بالحقائق” و “نجد إتجاهنا السليم”، كلها تعبيرات بتحط الشعب كله في موضِع المسئوليه، وكل اللي عبد الناصر جي يعمله هو إنه يقود جلسة مُصارحه مش يتحمل مسئولية النكسه. تعبير النكسه اللي إختاره هيكل مُتماشي جداً مع مدخل الخطاب اللي بدأ من الأول بتذكير الناس بأوقات النصر والساعات الحلوة وإيجاد الإتجاه السليم، النكسه هي تكرار لنفس الخط من الصعود المتبوع بالهبوط. لو بصيت بصه سريعه على المُعجم هاتلاقي إن الكنسه هي عودة المرض بعد الشفاء منه. وبالتالي اللحظه الحاليه بتتقدم بإعتبارها سقوط بَعد عُلو وهزيمه بعد نُصره.
توصيف المُشكله في الخطاب بدأ بوصف موقف الجيش المصري بإعتباره رد فعل، إحنا مكناش عايزين نحارب بس العدو هو اللي بدأ وكان بيجُر شكل من مايو اللي فات وعايز يهاجم سوريا. طول الخطاب مفيش أي لوم بيوجهه عبد الناصر لنفسه، حتى خطأ المعلومات اللي وصلتله بخصوص قُدرات العدو تم توصيفه بإن “المعلومات اللي عندنا كانت دقيقه جداً، لكن العدو إستعان بدعم من دول تانيه”، وبالتالي الكلام إننا عملنا كل حاجه صح بس المؤامره اللي حوالينا كبيره أوي. بيدقق عبد الناصر جداً على إن مفيش أي مشكله في مصادر “إخواننا” السوريين وإن “أصدقاؤنا” في الإتحاد السوفييتي بلغونا إن في هجمه وشيكه على سوريا. طبعاً الدخله دي apologetic جداً، بمعنى إنه بيسبق وبيخلي مسئولية الطرفين عشان محدش يلومه على التحالف معاهُم. الطرفين كانو مُخلصين وعملو اللي عليهم لكن –زي ما بيقول في فقره بعد كده– “المؤامرة كانت أكبر وأعتى”. وبرر كمان عدم بدء إطلاق النار من الطرف المصري بإعتباره إلتزام بطلب موسكو والرئيس الأمريكي بعدم ليندون جونسون بـ “ضبط النفس” وعدم البدء بإطلاق النار.
توصيف عبد الناصِر –أو هيكل– للمُشكله هي انها ضربه موجهه ضد القوميه العربيه. وبالتالي بيحط الدول العربيه في جهه مع روسيا في مواجهة إسرائيل وقوى تانيه مقالش إسمها لكن اشار ليها بإنها بتصفي حسابات مع القوميه العربيه. وبعد ما إستطرد في مدح بسالة الجيش السوري والأردني والشعب الجزائري والعراق وشعوب وحكومات السودان والكويت واليمن ولبنان وتونس والمغرب، رجع تاني يتكلم عن المؤامره اللي بتواجه كل الشعوب العربيه مُمثله في الإستعمار اللي خلى بعد الإمداد سواء بالبترول أو بفتح المجال الجوي يحصل وقت الهجمات على مصر. يعني بردو بيسبق وبينفي أي تعاون بين الدول العربيه وإسرائيل وبيرمي عبء التعاون ده على الضغط الإستعماري على بعض الدول اللي مقالش أسمائها كمحل للإتهام، وبدل ده بيقول ” وهناك قواعد عربية وضعت قسراً –وبرغم إرادة الشعوب– فى خدمة العدوان”.
لحد هنا في الخطاب جمال عبد الناصر بيقدم سياساته بإعتبارها مثاليه، البحث عن المعلومات دقيق، وفي وفاء بالوعود والعهود والتحالُفات، وأي تدخل كان لمصلحة الشعب السوري الشقيق، وكلنا في مركب واحد وكلنا محتاجين نتكلم عشان نقدر نبني من تاني ونرجع للطريق الصحيح.
بعد كده بيحدد عبد الناصر 3 نقط أساسيه لازم “نشتغل عليها”، طبعاً نشتغل بالجمع دي موجوده بمعناها في ال 3 نقط اللي قالها. الأولى كانت إننا كعرب لازم كلنا نزيل آثار العدوان ونكون كلنا مع بعض في مواجهة النكسه، ولما بيقول كلنا مع بعض بيقول بوضوح “نقف مع الأمة العربية موقف الصلابة والصمود”، وبالتالي النكسه أو الهزيمه مش لمصر، ولكن للشعب العربي كله. النقطه التانيه اللي قالها هي إعادة توجيه المصالح العربية في خدمة الحق العربي، وهنا يقصد إن في دول بتدور على مصالح العدو، إشاره تانيه لعدم إلتزام بعض الدول بالوعود، ولكن بسرعه بيوضح إنهم عملو كده جبراً بسبب الإستعمار. النقطه التالته وهي تكرار غريب للنقطتين اللي فاتو، كل اللي قاله إننا محتاجين كلمه موحده للعرب، وده ممكن يُفهم من النقطه التانيه من توجيه المصالح العربيه للحق العربي. كانت نقطه غير موفقه من هيكل.
بعد كل اللي قاله عبد الناصر، وبعد كل التبريرات وإخلاء الطرف من المسئوليه، بيقول في الفقره اللي بعدها “هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق –وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفى فى الأزمة –فإننى على استعداد لتحمل المسئولية كلها”. الجمله فيها معنى غريب شويه، الجمله أولاً مجاوبتش على السؤال اللي طرحته بنعم أو لا. يعني هو سأل “هل ده معناه إني لا أتحمل مسئولية اللي حصل؟” ومجاوبش غير بإنه مُستعد لتحمل المسئوليه، يعني جت بصيغة التضحيه، أنا هاضحي وأتحملها، لكن في نفس الوقت مقالش إنه مسئول أو مُستحق للوم بسبب اللي حصل. الحاجه التانيه إن السؤال البلاغي ده مش مجرد سؤال عابر ولكن هو نفسه إنعكاس لوعي هيكل بإن اللي فات كان كله تبرير للي جي. بإختصار تحمُّل عبد الناصر للمسئوليه جي في سياق الجدعنه مش سياق اللوم، هو الذبيح اللي بيتحمل عبء تقصير الكل طواعية عشان الكل يقوم وينتصر.
بيستخدم هيكل في الخطاب ده إسلوب ذكي في إنه بيخفي عبد الناصر عشان يضع الأمه العربيه أمام تحدي وهو التوحُّد لمواجهة الإستعمار والعدوان الإسرائيلي. النكسه إتصاغت بإعتبارها تحدي عربي مش مصري، وبالتالي لا يُسأل عنه عبد الناصر ولكن تُسأل عنه الشعوب العربيه كلها. وده يتَّسِق جداً مع صورة عبد الناصِر المُضحِّي اللي هايقولكو الصح وهايتحمل المسئوليه بدالكو بس أهم حاجه تعرفو لازم تعملو إيه وهايقولكو ال 3 نقط اللي هايحلو المُشكله. في نفس السياق بيقول هيكل ما معناه إن الكل بيحارب عبد الناصر نفسه، ف بيقول إن قوى الإستعمار والقوى المعاديه للقوميه العربيه مش شايفه قدامها غير عبد الناصر وإنها إمبراطورية عبد الناصر. وبالتالي الخطاب بيقول للشعوب العربيه “هم عايزين يخلصو مني”. إن الجمله دي تيجي بعد إعلان التنحي فمعناه ببساطه لو سيبتوني أمشي تبقو عملتو اللي هم عايزينه، وبالتّالي أنا ممكن أمشي جدعنه مني لو مش عايزين تواجهو المُشكله الحقيقيه، أنا مش طمعان في سُلطه ومش باقي على الحُكم، لكن إعرفو إنكو لو سيبتوني أمشي تبقو بتحققو بالظبط اللي هم عايزينه”.
في فقره قرب نهاية الخطاب بيسهب جمال عبد الناصر في سَرد إنجازات جيل الثوره، وبيسرد في الحقيقه إنجازاته هو. كتأكيد على إنه مقصرش وبيفكرهم تاني باللي قاله في الأول عن أوقات النصر والساعات الحلوة. طبعاً دي مش tone واحد بيعلن إستقاله، ولكن واحد بيشحن الناس عاطفياً وبيحركهم تجاه الوِحده العربيه اللي هي أساساً آجندته اللي هو إستخدمها في الحَشد من ساعة ما وصل للحكم.
خاتمة الخطاب مش خاتمة واحد هايمشي، ولكن واحد قاعد وبيقولهم بوضوع خليكو جنبي. بيقولهم موقفنا دلوقتي مش المفروض يكون موقف شخصي، وأعتقد إنه يقصد إن زي ما هو مش موقف شخصي يعني لمصلحة أشخاص ف هو بالضروره موقف جَمعي عربي مش ضد أشخاص، وبالتالي مش ضد عبد الناصر نفسه. أخيراً بيواسي عبد الناصر الشعب العربي وبيقولهم “قلبي كله معكم”، تاني هيكل بينقله من خانة المُتهم والملوم للقائد المُنصت المُتعاطف، وبالتالي بيرفع عنه المسئوليه. في الآخر خالص بتيجي الجمله الختاميه وهي الفقره الوحيده اللي ظهر فيها إشاره دينيه “لكن الله معنا جميعاً، أملاً في قلوبنا وضياءً وهدى”، ولكنها عباره ممكن يجتمع كلها الكل وبالتالي مفيهاش إقصاء ولا تمييز، وهو المطلوب في خطاب جمعي بيكلم شعوب بها قدر من التنوع الديني زي الشعوب العربيه.
الخطاب مكتوب بحِرفيه، وخطاب مؤثر، ولكن في نفس الوقت ليه خط واضح وهو إعفاء عبد الناصر من المسئوليه وتحميل المسئوليه للشعوب العربيه جمعاء سواء بعدم إتحادهم أو بإستسلامهم لصور الإستعمار. من الطبيعي بعد خطاب زي ده الناس توصلها رسالة براءة عبد الناصر لأن لغوياً الخطاب بيحاول يوصل ده فعلاً، وإن كان ده لا يمنَع تماماً ما رجحه المؤرخين إن الرساله دي كانت مدعومه بشغل على الأرض.