تاريخ التاريخ النقدي

(1)
بدايات الإهتمام بتطوير التّاريخ النقدي

العالم القديم كان مهتم جداً بفكرة “الأصاله”، يعني إزاي تأصَّل للمعلومه اللي بتقدّمها. المؤرخين اليونانيين مثلاً إهتمو بفكرة المصادر، ف لو بصيت على سيرة الإسكندر المقدوني اللي كتبها المؤرِّخ Arrian، هاتلاقي Arrian في أولها قال منهجيته في صياغة سرديّته، ف قال إن عنده مصدرين أساسيين هم السيره اللي كتبها بطليموس بن لاجوس والسيره اللي كتبها اريستوبولوس ابن اريستوبولوس. Arrian مكانش مجرد بينقل من الإتنين، ولكن كان عنده ترتيب لمصادره، ف مثلاً لما السيرتين يتّفقو على حدث بياخد الحدث بإعتباره ذو قيمه تاريخيّه عاليه، لما بيختلفو بيدقق في الروايات ويختار الرّوايه اللي تبدو أقرب للواقِع/الحقيقه. هاتلاقي الكلام ده مشروح في كتاب Ancient Compositional Practices and the Synoptic Problem ل R. A. Derrenbaker ص٥١-٥٢. وده يوريك حاجه مهمه، إن التّصور الحالي عند مرحلة ال antiquity إنهم كانو شوية دراويش مؤدلجين بيكتبو أساطير مش تصور حقيقي، آه كان في آجندات بتحكم الكتابه، وكان في أساليب ميثولوجيّه، لكن لو جبتلك كتابات معاصره هاتلاقيها لا تخلو من ده بردو. كتبة العالم القديم كانو بيحاولو يحققو الموضوعيّه مع الغايه من الكتابه، بس في حدود فهمهم هم لطبيعة اللغه وإتاحة المصادر.

في مرحله تانيه مهمه وهي كتابة الأناجيل الأربعه، لأنه لا يخفى عليك إن دراسة المسيحيّه كانت محرِّك كبير لدراسة التّاريخ النقدي وصياغة أدواته ومعاييره، لدرجة إن دراسة الإسلام في الأكاديميا الغربيّه دلوقتي بتستعين بأدوات النقد التاريخي زي ال Form Criticism وال Redaction Criticism وال Source Criticism في دراسة سلاسل السنَد وتحليل المتون، وهاتلاقي الفكره دي ناقشها بشكل مختصر Seyfeddin Kara في مقدمة كتاب Integrity of the Quran، الصادر في ٢٠٢٤. وإستخدمها Harold Motzki في تطوير منهجيه نقديه لدراسة الحديث وهي المنهجيّه اللي بيشتغل بيها دارسي الإسلام المُبكِّر حالياً.

طيب ليه الأناجيل (أو النصوص المسيحيّه في المُجمل) سببت التطوُّر ده كلّه؟ الإجابه هنا في فكره محوريّه جداً وهي ال intertextuality أو التناص (هاتلاقيني كاتب عنه مقال بيحلل التناص بين رواية شق البحر لبني إسرائيل ورواية شق النيل للكاهن المصري المدونه في بردية ويستكار، وهاتلاقي اللينك تحت المقال). التناص ببساطه هو إن كل نصّ موجود مش موجود بشكل مُتفرِّد في فراغ. بالعكس، النصّ موجود في سياق أدبي كبير، يُحيط به إنتاج ثقافي تاني يشترك معاه في اللغه والأساليب البلاغيّه والسياق الإجتماعي. والأناجيل حالها كحال أي نصّ ليها سياق تاريخي وأدبي لازم تتقري فيه. الأناجيل كده، ٤ قصص لحياة شخص واحد بيتشابه أول ٣ منهم بدرجه كبيره تصِل أحيانا لحد التطابُق النصِّي وأوقات بيختلفو تماماً بشكل يصعُب توفيقه، وأوقات بيتفرَّد منهم الرَّابع (يوحنّا) بأحداث وأقوال تختلف تماماً عن محتوى وتاريخ التلاته الأوائل. الأناجيل على أهميِّتها التاريخيّه والثقافيّه والدّينيّه وتفرُّد نوعها الأدبي والخلاف حوالين ما إذا كانت bioi أو سير حياه رومانيّه ولا سيره نبويّه أخيريّه يهوديّه (راجِع مقدمة Adela Yarbro Collins لتفسير إنجيل مرقس في سلسلة Hermenia) وفَّرت كل أنواع الأسئله اللي خلِّت الباحثين يستثمر جداً في محاولة فَم أسرارها.

السؤال المُحرِّك للبحث الأكاديمي كان هو لأي مدى نقدر نعرف من الأناجيل شيء تاريخي عن حياة يسوع. وكانت الإجابات على spectrum واسِع جداً بيمتد من كون الأناجيل نصوص موثوقه في المطلق وكل اللي فيها تاريخي لحد إن الأناجيل نصوص مُنتحله بالكامِل وكل اللي فيها أساطير صيغَت كتاريخ. مع الوقت ومع التصادُم بين الرؤى المُختلفه ومع النَقد الحاد اللي واجهته المسيحيّه من العقلانيّه الأوروبيّه بدأ الباحثين يسألو السؤال الأخطر وهو سؤال المنهجيّه. ممكن الشخص يدخل بإنحيازاته ويجاوب أي سؤال إجابه تتوافق مع قناعاته وخلاص، ولكن إيه اللي يضمن إنه إجابته دي تكون “موضوعيّه” وتكون communicable أو يقدر يوصّلها لأكاديميين آخرين مُختلفين معاه في القناعات؟ يعني من الآخر إزاي تقدر تفتح مساحة حوار موضوعيّه بيتخلّى فيها جميع الأطراف عن قناعاتهم المُسبقه ويحاولو يوصلو للمعلومه في ذاتها قبل ما تيجي خطوة “تفسير المعلومه”.

عشان تفهم المنظور ده للتّاريخ إقرا معايا الفقره دي من كتاب John P. Meier بعنوان A Marginal Jew: Rethinking the Historical Jesus (المُجلَّد الأوَّل ص.1):

“إفترضِ أن كاثوليكيّاً وبروتستانتيّاً ويهوديّاً ولا أدريّاً –وكان جميعهم مُؤرِّخينَ آُمناء عارفينَ بالحَرَكات الدينيَّة في القرن الأوَّل– وُضِعوا جميعاً في محبسٍ في دواخِلِ جامعة هارفارد، وأُجبروا على نظامٍ غذائيٍّ قاسٍ وَلم يُسمَح لهم بالخروجِ إلى أن يخطّوا وثيقة إجماعٍ حوَل هُويَّة يسوع النَّاصريّ وعَن مسعاهُ في وقتِهِ وزمانِهِ. أحد شروطِ تِلك الوثيقة أن تعتَمِد فقط على مَصادِرِ وإحتجاجاتٍ تاريخيَّة نَقيَّة. ستُعاني الوثيقة غير الدِّينيَّة ─أي تِلكَ الصِّياغة التوافُقيَّة─ النَّاتجة من كُلِّ العِلَلِ التي تشوبُ التصريحاتِ المَجمَعيَّة (أي الجَمَاعيَّة، وليس المقصود بها “المَجامِع الكَنَسيَّة”) التي توصَّل إليها الأعضاء. أحياناً ستُختار بعناية لُغة تفتقِرُ إلى التَّحديد كيما يتم تخطِّي نِقاطَ الخِلافِ، وأحياناً سيُقِرّ [الأعضاء] علانيَّة مَواضِعَ الخلاف التي لم يتوصَّلوا فيها إلى إتِّفاقٍ. سوف لن تعكس هذه الورقة البيضاء [المكتوبة] عن يسوع آراء أيّ فردٍ من أعضاء اللجنة الجائعة بالكامِل. بالطَّبعِ لن تتضمَّن تأكيداتً من تِلك التي يتمسَّك بها الكاثوليكيّ والبرتتستانتي بالإيمان. الشَّرَط الأساسيّ الذي بمُقتضاه يجِب أن تكونَ تِلك الوثيقة الإتّفاقيَّة مفتوحَةَ للتَحَقُّقِ لجميع الأفراد الذين يستخدمون وسائل البحث التّأريخيّ الحديث سيتُنتِج [وثيقة ذات] مَنظورٍ ضَيِّق ورُؤية مُتشظِّية ورُبَّماً أيضَاً تشوُّهات.”

هنا التّاريخ مش مُجرَّد إنك تقفش في سرديه كلاسيكيّه وخلاص، لكن كمان محتاج تسوَّغ معارفك في دراسة التّاريخ. يعني عشان تدّعي إنك تعرف حدث ما في الماضي لازم تحقق بدون المعرفه التلاته: لازم معرفتك تكون “إعتقاد صادق مّبرَّر”. صعود المنهجيّه في دراسة التّاريخ كان مصاحب لصعود علم المعرفه وطبيعة التساؤل عن ما يجعل من الإعتقاد “معرفه”. عشان كده المؤرخين —وخاصة مؤرّخي المسيحيّه المُبكّره— إبتدو يصيغو شيء إسمه معايير الأصاله وكمان ينقدوها عشان يطوَّروها.

واحد من المعايير مثلاً هو تعدُّد المصادِر أو ال Criterion of Multiple Attestations. يعني إن كل ما توفَّر عندك عدد أكبر من المصادر القريبه من الحدث كل ما إحتمالية صدق الخبر كانت أعلى، وكل ما كان عندك إمكانية مقارنة الروايات ببعضها لمعرفة صيغتها الأقدم والوقوع على الإضافات والزيادات اللي دخلت على الخبر. لكن لو عندك خبر واحد أو زي ما بيتسمي في الدراسات الإسلاميّه Single Strand صعب تحدد إن كان الخبَر ده من إنتاج ناقله ولا نقله من مصدر أقدم. في موضوع الشهادات المُتعدده بيقول Robert Stein في مقال بعنوان Criteria of Authenticity إن تعدُّد المصادِر وسيله لا غِنى هنا بالنسبه للمؤرِّخ ولكنها لا تكفي لتحقيق “اليقين” بنفسها لأن وجود مصادِر مُتعدده وقديمه لمعلومه معناه إن المعلومه قديمه لكن مش معناه إن المعلومه صحيحه. وكمان بيضرب Dale C. Allison (1998 ص.7-8) مثال في مناقشة الشهادات المُتعدده ف بيقول ما معناه إن تخيل مثلاً لو عندنا شخص مؤثِّر هانسميه X وكان قُريِّب زمنياً ومكانياً من شخص مُهم هانسميه Y وهو محل البحث التاريخي، الشخص المؤثِّر X ده ممكن يتكلِّم وينسب أقوال ل Y، والناس تنقل عن Y على لسان X، ويجيلك شهادات مُتعدده عن حاجات قالها Y وتوصلك كمؤرِّخ بعد قرون. هنا إنت قدام شهادات مُتعدده، لكن مش بالضَّروره تقدَر تقول إنها راجعه ل Y، تقدَر بس تقول إنها ظهرت بشكل مُبكِّر، لكن مصدرها إيه ده سؤال متقدرش المصادر المُتعدده تجاوبه ولا تقدر تستخدم المعيار ده في مُعالجة والوقوف على مصدَر الأخبار والأقوال. وهنا نرجَع تاني للفرق ما بين التسويغ والمعرفه. المؤرِّخ في بحث الأسئله القديمه ميقدرش يوصل لمعرفه يقينيَّه صحيحه، ولكن يقدر يبني صوره مُسوَّغه بأدواته مبنيه على المُعطيات المُتاحه. يعني تخيَّل لو في حدث كتاب عنه 20 مصدَر، منهم 10 بيكتبو من منظور و10 بيكتبو من منظور مُضاد أو مُنافس، وضاع من المصادر دي 17، منهم ال 10 اللي بيتكلو من منظور مُضاد، كده إتبقالك 3 مصادر، ممكن تقدَر تبني عليهم صوره كمؤرِّخ وهاتكون مُسوَّغ في التصوُّر اللي بتبنيه لأن دي المُعطيات اللي باقيالك، لكن متقدرش تقول إن “إنتشار الخَبَر” أو “البِناء التاريخي” اللي عملته بيوصَّل لليقين أو إنه مُساوي للإدراك بالحِس، أو إنه بيوصَّل لمعرفه كامله. أقصى ما يُمكن تحقيقه هو تسويغ بناءاً على المُتاح.

عشان كده الباحثين في المنهجيات النقديه مش بيكتفو بمعيار أو إتنين للوقوف على صحة الخبَر، ولكن الموضوع cumulative، كل ما تراكمت الأدله المتنوِّعه كل ما كان الخبَر أكثر رجاحه. ف مثلاً في خبر الصَّلب عندك معيار الحرج (ناقشته في مقال منفصل هاحطيلك اللينك بتاعه تحت المقال) يعني إن الحدث يكون محرج لناقليه والأرجح إنهم كانو يحذفوه من كتاباتهم بدل ما يقبلوه ويتحمّلو الحرج ولكن لأنهم عارفين إن الخبَر حقيقي ومُنتشر نقلوه وفسَّروه أو أولوه لأن مفيش سبيل لحذفه أو إنكاره، وعندك معيار الشهادات المتعدده، وعندك معيار ال Dissimilarity أو معيار الإختلاف، يعني إن الخبَر اللي بيتنقل يكون عكس توقعات الجماعه اللي بتنقله وبالتّالي لو كانو يقدرو يدارو عليه أو يخفوه كانو عملو كده ولكنهم نقلوه بالرّغم إن تصوُّرهم اللاهوتي أو التاريخي كان مُعاكس، زي مثلاً إن التصوُّر السائد عن المسيح المنتظر إنه هاييجي مُنتصر وغالب، ف لما يتصلب وجماعته تنقل الخبَر ده دليل آن الحدث حصل لأنه عكس الآجنده اللاهوتيّه اللي كانت متوقعه عن شخص المسيح.

الأناجيل والصراعات اللاهوتيّه المُحيطه بيها فتحت باب كبير لدراسة النصوص بالتّوازي. إنك تلاقي كذا نسخه من نفس القصه وتجتهد في ترتيب مصادر القصّه وتصيغ أطروحه بتفسَّر تشابهاتهم وإختلافاتهم كان المدخَل الأساسي لدراسة التّاريخ. في العصر الحديث والمُعاصر مبقاش كفايه لدراسة التاريخ إنك تتبنّى سرديّه فئويّه، سردية جماعه. السؤال الأهم هو قدرتك على تسويغ السرديّه دي وإجابة أسئلة التاريخ عنها. مش كفايه إنك تنقل رأي فلان عن شيء لأنك بتشوف فلان قامه كبيره، السؤال بالنسبه للمؤرِّخ هو فلان مصادره إيه؟ هو فلان إسلوبه إيه عشان أقدر أحقق وأدرس الإختلاف بين إسلوبه وإسلوب المصادر أو المصادر اللي إعتمد عليها؟ هو فلان لو نقل حدث غير عادي أو مخالف لسير الطّبيعه أقدر أتحقق من كلامه إزاي؟ طب لو خبَر مُنتشر وبيتخلل دراسته بيانات prosopographical (معلومات عن حياة نقلة الخبر) لأي مدى أقدر أتحقق من المعلومات دي وأستخدمها لي تقييم الخبَر نفسه؟ هو لو توفرت عندي معلومه بدرجه كبيره من الترجيح أقدر أفسرها إزاي؟ إزاي أميِّز بين القراءه الموضوعيّه للحدث وبين القراءه المؤدلجه؟ كل دي أسئله يهم المؤرخ إجابتها أكتر ما يهمّه إنك تقدِّم سرديّه لاهوتيّه مُغلقه بتتحرّك من فرضيّات هدفها تكون stop-signs تموِّت خطّ السؤال.

(2)
تأثير المؤرخ المُبكِّر

تعالى ندردش في سؤال ثعباني: هل وجود كم كبير من المؤرخين المُبكّرين لدوله ما يعتبر مُفيد لأبحاث المؤرخين المُعاصرين عن تاريخ الدوله دي؟

قبل ما تكمِّل، خد دقيقتين تفكّر في السؤال ورتب أفكارك.

بص يا سيدي، بنسبه كبيره أعتقد إجابتك هاتكون بالإيجاب. هو إحنا عايزين إيه أكتر من ناس تسجِّل الأخبار وتتحقق من صحّتها وتديهالنا جاهزه! وأعتقد إن رأيك هايكون إن كل ما الموضوع كان مُمنهج ومُنظّم أكتر كل ما كانت مهمة المؤرخ المُعاصر أسهل. ومن بعض الوجوه كلامك هايكون صحيح. بس أنا عايز أكلمك في الجوانب المُخالفه للبديهه.

دلوقتي خلينا نرجع ونحط نفسنا مكان المؤرِّخ المُبكِّر اللي بيكتب من داخل آجنده سياسيّه. هاتقولي لأ لحظه، إنت ليه عايز المؤرِّخ يبقا تبع الآجنده السياسيّه؟ ما يمكن راجل حُرّ وتهمّه كلمة الحقّ وبس. هاقولك والله هو وارد، بس لو رجعت شويتين قبل الطِّباعه وفكّرت في حكم التكلفه اللي يتطلَّبها نسخ عمل تاريخي ضخم من حيث الأدوات وأجرة الكاتِب والنَّاسِخ والمجهود المبذول في نَشر العمل ده وسط النّاس والحِفاظ عليه والإستمرار في نسخه هاتلاقي إن أستمرار عمل تاريخي مُخالف للسُّلطه هو الإحتمال الأضعف. مين هايضّحي برقبته عشان يكتب تاريخ ضدّ الّدوله؟ عشان كده أغلب الأعمال اللي وصلتنا هي أعمال إما أشرفت عليها دول وجماعات كامله أو أعمال مش ضدّ الدوله زي الأعمال المسرحيّه والفلسفيّه وغيرهم. يعني مبدئياً الإحتمال الأكبر إن المؤرّخ X بيكتب داخل سياق الدّوله.

طيب المؤرِّخ X لما جه يكتب، وصله pool من الأخبار، إختار ينقل مجموعه منهم بناءاً على معايير هانسميهم ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥. من ال pool ده هو إختيار أخبار وحكم عليها بالصحّه أو المُناسبه لغرضه وقرر ينقلها، وفي أخبار تانيه منقلهاش عشان لا تتوافق مع غرضه أو تعارض معاييره اللي هم ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥. يعني في وجود معايير في أخبار بتموت، ولما الأخبار بتموت ومش بتتنقل مش بتوصلك، وبالتّالي مبقاش عندك إمكانية المُراجعه، يعني مبقتش كمؤرخ مُعاصر تقدر تخرج من إنحيازات المؤرخ X اللي مش بس إتحكّمت في نوعية الأخبار اللي نقلها لأ دي كمان قتلت الأخبار اللي منقلهاش. ولو إكتشفت إن ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ فيهم إشكاليات منهجيّه مش هاتعرف تتحصّل على كل ال pool اللي كان قدام المؤرِّخ المُبكر عشان تعيد تصنيف الأخبار اللي فيه، ببساطه لأنه تم قتل كل ما لم يكن على هوى المُراجِع. بعد ال censorship اللي حصلت وبعد ما مقصّ الرقيب مسح الأخبار دي من التّاريخ مبقاش في التّاريخ زي ما شافه المؤرخ المُبكِّر بقا في السرديّه اللي جمّعها المؤرِّخ المُبكِّر بإختياراته وإنحيازاته وأهواءه.

ده يورّيك إن وجود جماعات مُنظّمه من المؤرّخين المُبكّرين ممكن يكون مُضلِّل أكتر من وجود نقل عشوائي غير خاضِع لسُلطه. وجود سُلطه زي ما هو بيوفّر الفلوس والمجهود اللي بيتعمل من خلاله التأريخ، ف هو بردو بيصنع نسخته من التّاريخ. رأس المال مش بيصرف غير على ما يعود عليه بالإستقرار والزياده. وبالتّالي مع تطوُّر منهجيّات التأريخ المُبكره بتتطوَّر جداً القدره على الإختلاق وتنقيح المصادر القديمه. المؤرِّخ المُعاصر بيشعُر بالرّيبه كل ما يلاقي الدفاتر متستّفه، على عكس القاريء السطحي اللي عايز قصّه coherent وخلاص. المؤرِّخ يقدر يشتغل وسط الفوضى لأنه بيحِس إن في شيء واقعي يُمكن إستخراجه منها بأدوات النقد التّاريخي. لكن لو جاله سرديّه خالصه مخلّصه وكل النّاس بتحب فيها بعض ومفيش صراعات ومفيش مشاكل وكل الأسئله متجاوبه وكل النهايات مُغلقه بيعرف إن في حد إرتكب الجريمه وأخفى الأدلّه ونضّف وراه كويس.

(3)
إيه مُشكلة المؤرِّخ المُعاصر مع نقل الأخبار في العالم القديم؟

خلينا نتخيّل إننا بنناقش حدث حصل سنة ٣٠٠م، والحدث ده يُخالف العاده بالنّسبالنا، ولنقُل إن الحدث ده هو إن في سمكه إتكلمت. الحدث ده بإعتباره مش حدث طبيعي ومالوش دليل آركيولوجي وحصل مره واحده معندناش طريقه نتحقق منه. خلينا نقول إن الحدث هو كالتالي: جه كاهن من كهنة سيرابيس وقال للناس إن سيرابيس عايز يكلمكو ويثبتلكو إنه الإله الحقيقي، وراح ضارب إيده في النهر وطلّع سمكه والسمكه إتكلمت مع النّاس وقالتلهم بلغتهم إن سيرابيس هو الإله الحَقيقي وبعد كده ماتت لأنها خرجت من الميه والكاهن فضل ماسكها في إيده.

لو كان حدث طبيعي ومُعتاد مكانش هايبقا في داعي للشَك في حدوثه. لو جه حد قالك الدنيا مطرت يوم كذا سنة ٣٠٠م وجابلك شهادة واحد على الموضوع ده مش هايبقا في عندك سبب ترفض لأن فلان اللي قال إن الدنيا مطرت مالوش مصلحه في سَرد حدث طبيعي وعادي ومُتكرر وبيحصل طول الوقت وفي كل الأماكن. لكن لو قالك إن الدنيا مطرت في وسط فترة جفاف بمجرد ما كاهن سيرابيس نادى بإسم سيرابيس في المعبد ساعتها هاتقوله لأ هات دليل، لأن هنا هو مش مجرد بيسرد حدث ولكن هو عايز يمررلك من خلال السَّرد قناعه معيّنه بخصوص قدرة سيرابيس على إجراء تغيرات في الطبيعه. وحتى لو جابلك دليل هاتقوله يا باشا ما يمكن صادف إن كاهن سيرابيس دعى بإسم سيرابيس في وقت كان فيه غيوم بدأت تقرب من المنطقه وقت فترة الجفاف، ماهي بردو مش مستبعده خالص. وبالتّالي طول ما الحدث في إطار العاده ف كونه طبيعي دايماً هايكون أكثر إحتمالاً من كونه غير طبيعي.

نرجع تاني لمثال السمكه اللي إتكلمت. دلوقتي الحدث حصل سنة ٣٠٠، وجالك كذا واحد كتب سنة ٣٠٠ إنه حصل كذا كذا (خلينا نسميهم A و B و C)، وبعدهم بجيل عدد تاني كتب نفس الخبر (خلينا نسميهم D و E و F)، وبعدهم بجيل تاني عدد كتب نفس الخبر (خلينا نسميهم G و H و I و J و K و L) وكانت أخبار كل جيل مبنيه على الجيل اللي قبله. بالشكل التالي:

الحدث —> شاهد عيان A (جيل ١) —> ناقل للخبر D (جيل ٢) —> ناقل للخبر G و H (جيل ٣)
الحدث —> شاهد عيان B (جيل ١) —> ناقل للخبر E (جيل ٢) —> ناقل للخبر I و J (جيل ٣)

الحدث —> شاهد عيان C (جيل ١) —> ناقل للخبر F (جيل ٢) —> ناقل للخبر K و L (جيل ٣)

كده لو هاتاخد بكل المعلومات دي ف عندك ٣ شهود عيان شافو الحدث ونقل عنهم —بشكل منفصل— ٣ أفراد في الجيل اللي بعدهم، ونقل عنهم ٦ أفراد في الجيل التالت. المفروض كده عندك قضيّه تاريخيّه قويّه فيها شهود عيان. لحد هنا الكلام عظيم … بس ماذا لو كانت كتابات الناس في الجيل الأول مش موجوده، وكانت كتابات الجيل التاني مجرد شذرات وكانت كتابات الجيل التالت هي المصدر اللي موجود معانا. يعني معندكش حاجه كتبها شهود العيان نفسهم، بس عندهم حاجات من الجيل التالت بتنقل عن الجيل التاني اللي حصل في الجيل الأول، هل ده يعتبر دليل قوي؟

في هنا مدرستين في ال Epistemology of Testimony، الأولى إسمها Reductionism ودي بتتلخص في إن الخبر لا كمصدر للمعرفه وإنه لازم يكون مدعوم بواحد من مصادر المعرفه التلاته: الحِسّ، والمنطق، والذّاكره. ولأن خَبَر إن السمكه إتكلمت لا يمكن دعمه بالحسّ ولا المنطق ولا الذاكره ف الخَبَر لا يُمكن إن يتبني عليه إعتقاد صادق مُبرر (أو معرفه). المدرسه التانيه إسمها Non-Reductionism، ودي بتتلخص في صورتها البسيطه في إن الخَبَر هو مصدر رابع للمعرفه ويصلُح إنه يسوّغ أو يبرر المعرفه بدون ما يكون مدعوم بالحسّ أو المنطق أو الذاكره، بس يشترط فيه إنه يكون غير مصحوب بمعطيات تنقضه (بتتسمى في ال Epistemology بال defeater). وهنا خبرتنا بسير الطّبيعه هي في حد ذاتها “ناقض” يخلينا نشُكّ في إن الخبَر صادِق أو إنه يطابق الواقع، ودي فكره كنت ناقشتها في تعليق Timothy Perrine على مثال الفضائي ل Jennifer Lackey في مقال هاتلاقي اللينك بتاعه في التعليقات تحت. طب هل نقدر نلاقي شيء يدعم الخَبَر بالرّغم من مُخالفته لمعرفتنا بسير الطّبيعه؟

الفكره إن هنا إقتناعك بجدوى الشهادات دي قائم على حاجه إسمها Virtue Epistemology (هاحطلك لينكات مقالات عن الموضوع في الكومنتات)، يعني تحقق معرفتك (تحقق ال Justified True Belief أو الإعتقاد الصادق المُبرر عندك) مَرهونه بمواصفات ناقل الخَبَر. لو إنت بتثق في الأسماء اللي نقلتلك الخَبَر من الجيل الأول للتالت هاتعتبر نقلهم مضمون. طب عشان تعرف ال virtue بتاعتهم هاتجيب معلومات عنهم منين وهم أساساً بعيد عنك وانت متعرفهومش شخصياً؟ هاتضطر تروح تجمع أخبار عنهم من معاصريهم (ده لو لقيتلهم معاصرين كتبو عنهم) عشان تقيِّم بيها صفاتهم الشخصيّه، ولو ملقتش هاتشوف ناس كتبو عنهم بس بعدهم زمنياً أو بعيدين عنهم مكانياً، يعني تقييمك لصدق الخبر بتاع السمكه اللي إتكلمت بقا مرهون بصدق الخبر بتاع إن فلان سمعته كويسه ومبيكدبش، وده في المنطق إسمه infinite regression لأنك معرفتش تجيب justification للإدعاء بتاع إن السمكه إتكلمت ف روحت جبت خبر هو نفسه محتاج justification. ممكن تيجي تقولي طب ما الخَبَر جايلك من ٣ طرق منفصله، الأصل من A و B و C وكل واحد منهم نقل عنه عدد تاني منفصلين، والجيل التالت نقل عن الجيل التاني وهم منفصلين بردو.

المشكله هنا في نقطه خطيره. هو إيه اللي ضمّنك إن الجيل التاني مش هو اللي إختلق الحدث لورا في الجيل الأول؟ يعني خلينا نتخيّل سيناريو لطيف، إن في الجيل التاني بعد الحدث المزعوم، إنتشرت “قصة” معجزة كاهن سيرابيس، وبعد ما بدأت ك urban legend قرر واحد يحوّلها لحدث تاريخي، وتلقّفها من بعده ٣ أشخاص (اللي هم D و E و F) وكل واحد منهم نسب القصّه لشخص من الجيل اللي قبله، سواء بقا الشخص ده كان معروف فعلاً والناس هاتصدق كلامه لأنه مشهور في مجتمع معيّن وذو شأن وسيرته حسنه، أو يكون شخص مُختلق بالكامل عشان يترمي عليه عبء البرهان التاريخي في قصص كتير من اللي بتتحكي في الجيل التاني. لو ده حصل فعلاً من كتبة الجيل التاني إزاي هاتقدر تتحقق من إن الحدث بتاع إن السمكه إتكلمت حصل فعلاً وسط الجيل الأول وشافه فعلا الشهود A و B و C؟

المشكله هنا إن كل ما بيتم صناعة نمط معرفي بإعتباره موثوق كل ما اللي عايز يزيِّف شيء بيزيِّفه عشان يواكب معايير النمط ده. يعني لو جبت ناس وعلّمتهم المعايير اللي محتاجها المؤرّخ لدراسة أي حدث وقررو يزوّرو ف هم هايزوّرو عشان ينتجولك دليل تراكمي تتحقق فيه معايير التّاريخ اللي إتعلّموها وبيفكّرو بيها. وبالتّالي في العالم القديم لو حد عايز يختلق حدث مش هايكون ساذج بدرجة إنه يقولك الحدث وخلاص وهو عارف إن بينه وبين الحدث ١٠٠ أو ٢٠٠ سنه، بالعكس، العالم القديم كله عارف إن النقل الشفاهي له سلطه، وإن الحدث عشان يكون مُعتبر لازم يكون مُشتهر وبيرجع لشهود عيان، وبالتّالي لما ييجي يخترعلك حدث هايحققلك المعايير اللي انت بتدور عليها أساساً. وبالتّالي كون إنه يتوفّر عندك معايير التّاريخيّه بشكل ظاهري ده لا يستوجب إن المعايير دي كلها مستوفاه وإن الحدث تاريخي فعلاً، ممكن تكون المنظومه بتسمح بالإختلاق وإنت متعرفش، أو اللي بيختلق أساساً معاه الأدوات بدرجه تخليك متعرفش تميّز إمتا هو بيتلاعب عشان يستخدم المنظومه لصالحه.

هل اللي أنا قولته ده يستحيل عقلاً؟ هل الثقه في المنظومه اللي فيها الإحتمالات دي أكبر من الثقه في معرفتنا عن الطبيعه وإن السمك مش بيتكلم؟ هل تقدر تبني تصوُّرَك عن العالم وعن سير الطّبيعه وعن التّاريخ فقط على منظومة ثقه؟ وهل المنتج بتاع المنظومه دي يعتبر “يقين”؟

(4)
نبوّات تتحقَّ أم تاريخ يُكتَب بصوت نبوي؟

المؤرخ المُعاصر عنده إشكاليه كبيره مع فكرة النبوّات. في الوقت اللي الفرد داخل جماعه دينيّه مُعيَّنه بيشوف النبوات دليل على صحّة مُدّعى جماعته بيكون المؤرِّخ عنده إحتمال تاني أكثر رجاحه، وهو إن الأوّلين بيكتبو الأحداث عشان توافق الأخبار الأقدم بحيث يبدو إن الحدث اللي بيسجِّلوه شَرعي ومُتنبّأ به من الأجيال السّابقه. التمييز ده عبَّر عنه مؤرّخ للمسيحيّه المُبكّره إسمه John Dominic Crossan لما إتكلِّم عن طريقتين للتّعبير عن الماضي: الأولى history prophesied والتّانيه prophecy historicised، الأولى معناها نبوّه بتتحقّق في التّاريخ والتانيه معناها نبوَّه بيتكتب عليها تاريخ. يعني في الحاله التّانيه النبوّه متحققتش ولا حاجه، ولكن المؤرِّخ المُبكِّر بيكتب التّاريخ في قالب يخليه يبدو إنه تحقيق للنبوَّه عشان يُكسبه مشروعيّه.

عندنا كذا مثال لطيف للموضوع ده، بس خلّينا نجيبها في المصريين القدماء عشان منزعلش حد، خصوصاً إن الموضوع ده ينطبق على حاجات كتير أوي، والطيب أحسن. في برديه إسمها بردية Westcar (موجوده حالياً في المتحف المصري ببرلين، المانيا، برقم 3033)، وهي واحده من أقدم البرديات اللي تحتوي على نص كامل. البردية إكتشفها Henry Westcar ما بين 1823 و 1824 وإتسمت بإسمه، وهي نص مكتوب بالهيراطيقي وبيرجع للفتره ما بين الأسرات 16 و 18، ولكن البعض بيشوف إنها منسوخه من نص أقدم من الأسره 13.

المهم، البرديّه دي بتحكي كذا قصّه من ضمنهم قصه كنت إتكلمت عنها قبل كده فيها كاهن مصري ضرب النيل بعصايته وشقه نصّين وكده. هابقا أحطلك لينك المقال بعد البوست، بس النهارده يهمني جانب تاني من قصص البرديّه دي. القصه الخامسه في البرديّه —اللي كل أحداثها بتحصل في الأسره الرّابعه— بتتنبّأ بميلاد أول ٣ ملوك من الأسره الخامسه: أوسركاف وساحورع وكاكاي. في القصه الرّابعه إبن خوفو اللي إسمه حر-دجيد-إف بيتكلم مع خوفو أبوه اللي بيشتكي من الملل، وبيقوله إن كل القصص اللي إتحكت قبل كده (اللي إتحكت في البرديّه من أول القصه) كلهة عن أخبار معجزات في الماضي لكن المعجزات لسه بتحصل في الحاضر. وعشان يوري لخوفو معجزه في الحاضر إستدعى الكاهن دجيدي، اللي كان مشهور بإنه يقدر يركب أجزاء أي كائن راسه إتقطعت. ف هايجيبو دجيدي وهايجيبوله مسجون ويؤمرو بقطع راسه ويقولو لدجيدي يركبه على بعضه تاني، ف دجيدي بيرفض وبيقول إنه ميقدرش يعمل ده في إنسان، لكن هايعمل ده في وزه وبطه وتور.

وبعد كده هايسألو دجيدي عن المزارات بتاعت الإله تحوت اللي ليها قدرات سحريه عظيمه، لكن ديجي بيقول إن مش في إيده حاجه زي كده وإن ده لازم يتحقق من خلال الإبن البكر لواحده إسمها رد-دجيد-ت، اللي هي أم أوسركاف مؤسس الأسره الخامسه. أينعم من الآثار نعرف إن أم أوسركاف إسمها خنت-كاو-س الأولى، بس في القصه اللي في بردية ويستكار أم أوسركاف إسمها رد-دجيد-ت.

تخيّل مثلاً لو جه واحد عايز يتعامل مع البرديه دي كأنها نصّ ديني موحى به ومعصوم وصحيح بالكُليّه. بناءاً عليه هايقولك إن في نبوّه وإتحققت عن المصريين القدماء، وبعد كده ممكن يعمل إستدلال دائري بهلواني ويقولك إن النبوّه دي وتحققها دليل على صحّة الدّيانه المصريّه القديمه، ويعملك منظومه طويله عريضه يبرهن كل حاجه بحاجه تانيه وفي الآخر كله يرجعك في الآخر للإحتجاج بنبوات كهنة الأسره الرابعه عن ملوك الأسره الخامسه. ولو هو عاقل شويه ممكن يقولك مش هاعتبرها دليل لصحة الديانه المصريه القديمه بس على الأقل معنديش مُشكله إنها تبقا سرد تاريخي ونبوّه إتحققت فعلاً.

المؤرخ بقا هايقولك في حل تاني أبسط ومُباشر أكتر. الحقيقه مفيش نبوّه ولا حاجه. كل اللي حصل إن ملوك الأسره الخامسه أو حد عايز يمجّدهم حط قصّه على لسان ملوك وكهنة الأسره الرابعه عشان يمدح فيها ملوك الأسره الخامسه. يعني قصّه بتتكتب عشان تدّيك الإيحاء بالنبوّه والتحقيق. هاتيجي تقولي طب ما في أمثله تانيه لنصوص إحنا متأكدين إنها قديمه وبتقول كلام وبييجي بعدهم بفتره طويله حد يتحقق في حياته النبوات دي. هاقولك في المثال اللي بتقوله الأرجح إن حد بيكتبلك سيرة فلان في قالب النبوه اللي أصلاً معروفه عند الكلّ. يعني هو عارف إن في نصّ بيقول في واحد هاييجي صفاته كذا وكذا، ف هو عشان يقولك إن فلان اللي هو بيمدحه وبيكتب قصته هو الشخص اللي إنت بتنتظره، ف بيكتبلك قصته بحيث تبدو كتحقيق للوعود القديمه. زي بالظبط ما الإمبراطور Vespasian حب يقدِّم نفسه لليهود في القرن الأوّل بإعتباره المسيح المُنتظر، ف جاب مؤرِّخين يكتبو سيرته بإعتباره اللي بيتحقق فيه الوعود المسيانيّه كلّها، وكتبوله معجزات كمان.

بعد ما إنتصر الإمبراطور ڤسپاسيان في صِراعه مع ڤيتيليوس قدر يكون الحاكم الأوحد، وبدأ دعايا إمبراطوريه عشان تدعَّم حُكمه، ومشي على خُطى الأباطره اللي قبله زي يوليوس قيصر، وأغسطس قيصر، وكلاوديوس. يوليوس قيصر نال ألقاب إلهيه، ومن بعده أغسطس تم تأليهه وبقا بيتقال عليه إنه “إله إبن إله”. وقرر ڤسپاسيان يمشي في نفس الخط ويدعَّم نفسه بآيديولوجيا تحمي مُلكه من أي ثورات وتديله سُلطه على عقول وقلوب الناس. من ضمن الدعايا دي إنه كده راجل تقي بيعمل مُعجزات! لأ وكمان في مؤرِّخين بينقلو المُعجزات دي كمان، ومؤرخين مشهورين زي تاسيتوس وسويتونيوس وكاسيوس ديو (أول اتنين عاشو في عصر ڤسپاسيان).

المُعجزه الأولى اللي بيحكوها إن في إتنين من إسكندريه واحد كفيف والتاني إيده مشلوله لما شافو الإمبراطور جي رمو نفسهم قدامه وطلبو منه يشفيهم لأن الإله سيرابيس ظهرلهم وقالهم إن الإمبراطور عنده القدره يشفي الإعاقات، وكمان سيرابيس حدد طريقة الشفاء هاتحصل إزاي. بحسب سويتونيوس في كتابه عن ڤسپاسيان الفصل 7 والفقره 2 و 3 سيرابيس قال إن بُصاق ڤسپاسيان هايشفي الكفيف ولمسه من كعب رجله هاتشفي اللي إيده مشلوله. في الأول الإمبراطور كان متردد (بص الصياعه في الصياغه) ومش عايز يجرَّب لكن المُحيطين بيه إتحايلو عليه لحد ما قرر يحاول. ف سمع الكلام اللي قاله سيرابيس وإستخدم ال saliva بتاعته في إنه يشفي عين الكفيف وأبصر فعلاً، وبالنسبه للي إيده مش بتتحرك خلاه يمد إيده ومر بخطواته من فوق إيده ف خفت وقدر يحركها.

ڤسپاسيان مش بس كان بيشفي، ده كان بيشوف رؤى، ف مثلاً كان في معبد سيرابيس وشاف رؤيا عن واحد إسمه بازيليدس، وكان مريض وطريح الفراش في مدينه بعيده. في رؤياه شاف ڤسپاسيان بازيليدس وهو بيُغدق عليه العطايا الرمزيه وكأنه بيتوِّجه بالحُكم.

سويتونيوس بيحكي إن بعد موت ڤسپاسيان جه إبنه تيطس، وحصل في وقته في سنة 80م وباء شديد. اللي سويتونيوس بيقوله إن تيطس أخد الرداء بتاع أبوه وقدم نفسه بإعتباره سيرابيس الجديد وبدأ يلمس الناس ويشفيهم. بيقول Trevor Luke في ورقه بحثيه نشرها في 2010 وتحديداً في صفحة 85 إن معجزات تيطس كانت معروفه في وقت مبكر مقارب للوقت اللي كتب فيه المؤرخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس كتابه عن حروب اليهود. وبيقول يوسيفيوس إن في فلسطين اليهود جففو الآبار بتاعت الميه عشان يقاومو الرومان لكن تيطس والجيوش بتاعته بالرغم من كده كان بيتوفرلها كميات كبيره من المياه بشكل معجزي.

من الآخر، المؤرِّخ عنده سكّه تانيه للتّعامُل مع النبوّات. هو بيشوفها بأعتبارها آداه أدبيّه، مش بيقراها زي ما بيقراها اللاهوتي. اللي بيكتب التّاريخ مش بيروي حقائق مُجرّده، وبيستخدم النبوّه عشان يدّي مصداقيه للخبر اللي بيرويه من خلال إلقاء عبء الدليل على نصوص أقدم بيقدّرها المُستمع. ف بدل ما يجيلك بسرديّه جديده بيجيلك بسرديّه قديمه ويقولك أنا جي أكمل عليها أو أحققها، لا وبص كمان دي بتتكلِّم عني بس أهو.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *