المؤرخ والتسويغ وآليات الكذب
MA in Applied Linguistics and TESOL, Portsmouth University, United Kingdom. His current research areas are Critical Discourse Analysis, Gender Relations, Religious Literature, and Hermeneutics
المؤرخ والتسويغ وآليات الكذب
تجميع لأهم إشكاليات الخبر في التاريخ القديم
زي ما إتكلمت في مقالات تانيه (أربع أو خمس مقالات) عن علم المعرفة ودراسة المعرفة بالخبر وطرحت إشكاليات عديده فيه، النهارده هاكمِّل في نفس الخط، بس أنا بلعب معاك لعبه زي ما إتفقنا في الفصل السادس من سلسلة الزيتون وقولتلك إني هاكشفلك أوراقي، حدث الزيتون مثلاً بالنسبالي مش هو الهدف، ولكن هدفي أخليك تشوف مُشكلات معرفيّه في أفكار تانيه وقراءات تانيه للتّاريخ إنت بتتبناها، بس مش هاتشوف إشكالياتها إلا لما تبص على الموضوع وهو بيتطبّق على شيء بعيد شويه عن قناعاتك، ساعتها هاتفكّر بمساحه أكبر من الحريّه اللي بتمنعك منها عاطفتك تجاه أفكارك. تقدر تقول كده حاجه زي اللي بتعملها السينما وقراءة الأدب، إنك بحُكمك على أشخاص تانيه بتقدر تعيد قراءة شخصيتك، وبنقدك لتاريخ أمم أخرى بتعرف تشوف شيء جديد في تاريخك. أنا بحاول أخرجك من مساحة تعلُّقك العاطفي بأفكارك وبخليك تنقد حدث تاني، وفي نقدك ده هاتقدر ترجَع تشوف الآيديولوجيا بتاعتك بعيون جديده.
اللي عايز أتكلم فيه النهارده هو إزاي ممكن يتم إنتحال التاريخ بشكل مُعاكس للقراءه البديهيّه. التّاريخ مش بيُخترع من الصفر. حرفة مُنتحل التّاريخ في إنه بيقدر يدمج تفاصيل حقيقيّه بتفاصيل مُنتحله. الكذب اللي بيكون بلا أصل بيكون كذب مكشوف، ولكن الكذب اللي بيتلبّس بعض الحقيقه بيكون فيه شيء من ال verisimilitude أو بيشابه الواقع بشكل يخليه يلتبس عليك. وزيّ ما في مؤرِّخ ماهر في مُنتحل ماهر، وكل شخص بيحط قواعد منهجيّه للحقيقه هو في نفس اللحظه بيحط قواعد منهجيّه لإختلاق شيء يُشبه الحقيقه.
خلينا نتخيّل إننا بنناقش حدث حصل سنة ٣٠٠م، والحدث ده يُخالف العاده بالنّسبالنا، ولنقُل إن الحدث ده هو إن في سمكه إتكلمت. الحدث ده بإعتباره مش حدث طبيعي ومالوش دليل آركيولوجي وحصل مره واحده معندناش طريقه نتحقق منه. خلينا نقول إن الحدث هو كالتالي: جه كاهن من كهنة سيرابيس وقال للناس إن سيرابيس عايز يكلمكو ويثبتلكو إنه الإله الحقيقي، وراح ضارب إيده في النهر وطلّع سمكه والسمكه إتكلمت مع النّاس وقالتلهم بلغتهم إن سيرابيس هو الإله الحَقيقي وبعد كده ماتت لأنها خرجت من الميه والكاهن فضل ماسكها في إيده.
لو كان حدث طبيعي ومُعتاد مكانش هايبقا في داعي للشَك في حدوثه. لو جه حد قالك الدنيا مطرت يوم كذا سنة ٣٠٠م وجابلك شهادة واحد على الموضوع ده مش هايبقا في عندك سبب ترفض لأن فلان اللي قال إن الدنيا مطرت مالوش مصلحه في سَرد حدث طبيعي وعادي ومُتكرر وبيحصل طول الوقت وفي كل الأماكن. لكن لو قالك إن الدنيا مطرت في وسط فترة جفاف بمجرد ما كاهن سيرابيس نادى بإسم سيرابيس في المعبد ساعتها هاتقوله لأ هات دليل، لأن هنا هو مش مجرد بيسرد حدث ولكن هو عايز يمررلك من خلال السَّرد قناعه معيّنه بخصوص قدرة سيرابيس على إجراء تغيرات في الطبيعه. وحتى لو جابلك دليل هاتقوله يا باشا ما يمكن صادف إن كاهن سيرابيس دعى بإسم سيرابيس في وقت كان فيه غيوم بدأت تقرب من المنطقه وقت فترة الجفاف، ماهي بردو مش مستبعده خالص. وبالتّالي طول ما الحدث في إطار العاده ف كونه طبيعي دايماً هايكون أكثر إحتمالاً من كونه غير طبيعي.
نرجع تاني لمثال السمكه اللي إتكلمت. دلوقتي الحدث حصل سنة ٣٠٠، وجالك كذا واحد كتب سنة ٣٠٠ إنه حصل كذا كذا (خلينا نسميهم A و B و C)، وبعدهم بجيل عدد تاني كتب نفس الخبر (خلينا نسميهم D و E و F)، وبعدهم بجيل تاني عدد كتب نفس الخبر (خلينا نسميهم G و H و I و J و K و L) وكانت أخبار كل جيل مبنيه على الجيل اللي قبله. بالشكل التالي:
الحدث —> شاهد عيان A (جيل ١) —> ناقل للخبر D (جيل ٢) —> ناقل للخبر G و H (جيل ٣)
الحدث —> شاهد عيان B (جيل ١) —> ناقل للخبر E (جيل ٢) —> ناقل للخبر I و J (جيل ٣)
الحدث —> شاهد عيان C (جيل ١) —> ناقل للخبر F (جيل ٢) —> ناقل للخبر K و L (جيل ٣)
كده لو هاتاخد بكل المعلومات دي ف عندك ٣ شهود عيان شافو الحدث ونقل عنهم —بشكل منفصل— ٣ أفراد في الجيل اللي بعدهم، ونقل عنهم ٦ أفراد في الجيل التالت. المفروض كده عندك قضيّه تاريخيّه قويّه فيها شهود عيان. لحد هنا الكلام عظيم … بس ماذا لو كانت كتابات الناس في الجيل الأول مش موجوده، وكانت كتابات الجيل التاني مجرد شذرات وكانت كتابات الجيل التالت هي المصدر اللي موجود معانا. يعني معندكش حاجه كتبها شهود العيان نفسهم، بس عندهم حاجات من الجيل التالت بتنقل عن الجيل التاني اللي حصل في الجيل الأول، هل ده يعتبر دليل قوي؟
في هنا مدرستين في ال Epistemology of Testimony، الأولى إسمها Reductionism ودي بتتلخص في إن الخبر لا كمصدر للمعرفه وإنه لازم يكون مدعوم بواحد من مصادر المعرفه التلاته: الحِسّ، والمنطق، والذّاكره. ولأن خَبَر إن السمكه إتكلمت لا يمكن دعمه بالحسّ ولا المنطق ولا الذاكره ف الخَبَر لا يُمكن إن يتبني عليه إعتقاد صادق مُبرر (أو معرفه). المدرسه التانيه إسمها Non-Reductionism، ودي بتتلخص في صورتها البسيطه في إن الخَبَر هو مصدر رابع للمعرفه ويصلُح إنه يسوّغ أو يبرر المعرفه بدون ما يكون مدعوم بالحسّ أو المنطق أو الذاكره، بس يشترط فيه إنه يكون غير مصحوب بمعطيات تنقضه (بتتسمى في ال Epistemology بال defeater). وهنا خبرتنا بسير الطّبيعه هي في حد ذاتها “ناقض” يخلينا نشُكّ في إن الخبَر صادِق أو إنه يطابق الواقع، ودي فكره كنت ناقشتها في تعليق Timothy Perrine على مثال الفضائي ل Jennifer Lackey كنت كتبت عنها مقال “مقدمة في المعرفة بالخبر” تقدر تلاقيه على الموقع. طب هل نقدر نلاقي شيء يدعم الخَبَر بالرّغم من مُخالفته لمعرفتنا بسير الطّبيعه؟
الفكره إن هنا إقتناعك بجدوى الشهادات دي قائم على حاجه إسمها Virtue Epistemology، يعني تحقق معرفتك (تحقق ال Justified True Belief أو الإعتقاد الصادق المُبرر مَرهونه بمواصفات ناقل الخَبَر. لو إنت بتثق في الأسماء اللي نقلتلك الخَبَر من الجيل الأول للتالت هاتعتبر نقلهم مضمون. طب عشان تعرف ال virtue بتاعتهم هاتجيب معلومات عنهم منين وهم أساساً بعيد عنك وانت متعرفهومش شخصياً؟ هاتضطر تروح تجمع أخبار عنهم من معاصريهم (ده لو لقيتلهم معاصرين كتبو عنهم) عشان تقيِّم بيها صفاتهم الشخصيّه، ولو ملقتش هاتشوف ناس كتبو عنهم بس بعدهم زمنياً أو بعيدين عنهم مكانياً، يعني تقييمك لصدق الخبر بتاع السمكه اللي إتكلمت بقا مرهون بصدق الخبر بتاع إن فلان سمعته كويسه ومبيكدبش وإن فلان كان في نفس الزمن والمدينه اللي كان فيهم اللي هو سمع منه، وإنه قابله وإتكلم معاه، وطبعاً الأخبار ده في حد ذاتها محتاجه دليل، وده في المنطق إسمه infinite regression لأنك معرفتش تجيب justification للإدعاء بتاع إن السمكه إتكلمت ف روحت جبت أخبار (إن فلان سمعته كويسه، وإن فلان قابل فلان وسمع منه وهكذا) هي نفسها محتاجه تسويغ ودليل. ممكن تيجي تقولي طب ما الخَبَر جايلك من ٣ طرق منفصله، الأصل من A و B و C وكل واحد منهم نقل عنه عدد تاني منفصلين، والجيل التالت نقل عن الجيل التاني وهم منفصلين بردو. يعني عشان تسوَّغ معلومه بتسوغها بمعلومه تانيه هي نفسها تفتقر للتسويغ. مشكلة passing the buck اللي إتكلمت عنها قبل كده.
إقرا كده الفقره دي وهاشرحهالك: “على كل حال، في قطاع عرض من الإعتقادات المبنية على الخبر، المُسوِّغ المُستقل [الذي يحتاجه الخبر] محَل النَّظر يتكّون هو نفسه من إعتقاد مبني على الخبر وبدوره يتطلَّب مسوِّغاً مُستقلّاً .. وهكذا. على الأرجح ستتكون عندنا دائرة من التّسويغ. في هذه الدائرة سيكون الإعتقاد محَل الإثبات هو نفسه آداة التسويغ للإعتقادات المبنية على الخبر، ولكن حتى إن لم يحدث هذا، سيتبقى لنا تسلسل لا نهائي من المسوِّغات [التي تفتقر هي نفسها للتسويغ]، وهذا ليس أفضل بأي حال.” (Pritchard 2004, p.331)
وده جزء تاني من Standford Encyclopedia of Philosophy يوضحلك الدَّور circular argument والتسلسُل infinite regression
“تاريخياً، أُثقِلَت الإختزالية العامة Global Reductionism بثلاثة إعتراضات. الأوّل، جادل المُعارضون بأن أيّة مُحاولة للتحصُّل على أسباب غير خَبَريّة non-testomonial للإعتقاد في الموثوقية العامّة للخَبَر ستئول بالضّرورة إلى دَورٍ مُفرَغ أو تسلسل مُعضل. فمثلاً لكي أعرف أن النّاس بشكلٍ عام يقولون الحقيقة، سأحتاج أن أعتمد على شهادة “بيل” لأثبت أن ما قالته “أليس” صحيح. ولكن لكي أعلم أن “بيل” موضِع ثِقة، رُبّما سأضطر للإعتماد على “كارلي” لتأكيد أنه عادة ما يقول أموراً حقيقية. ولكن لأعلم أن “كارلي” عادة ما تقول الحقيقة، إما سأضطر للإعتماد على “أليس” و “بيل” ليؤكدا هذا الأمر لي (وهذا دَور مُفرَغ vicious circle)، أو سأحتاج شخصاً رابعاً مثل “دونالد” (وبهذا يستمِر التّسلسُل regress). لهذا، ولأنه لا يوجَد وسيلة جيِّدة للتحصُّل على الأسباب غير خبرية موضع السؤال، يلزَم الإختزالية العامة إشكال أننا نادراً ما نكون مُسوَّغين في قبول ما يقوله النّاس لنا.”
(١) بيل أخبرني بالخبر P
(٢) صدق P مرهون بصدق بيل
(٣) أليس أخبرتني بصدق بيل
(٤) صدق أليس مرهون بصدق كارلي
(٥) كارلي أخبرتني بصدق أليس
(٦ أ) صدق كارلي مرهون بصدق بيل أو أليس
× دَور
(٦ ب) صدق كارلي مرهون بصدق دونالد
(٧) صدق دونالد يتطلب شهادة شخص آخر وصدق الآخر يتطلب شهادة آخر وصدق الآخر يتطلب آخر
× تسلسل
المُشكله إن كل خبَر هنا هو نفسه محتاج دليل. يعني عشان تثبت الخبر X من خلال إثبات إن المُخبر Y صادق، ف الخبَر اللي هاتثبت بيه صدق Y هو نفسه محتاجه تسويغ أو دليل، ولو صدق Y مفيش عليه دليل ثابت يبقا X مش خبَر ثابت. المُشكله دي بينبه ليها باحثين زي Pritchard اللي بيقول إن النمط المعرفي ده بالضّروره هايؤدي إلى infinite regression أو تسلسل، يعني الخبر A مفيش عليه دليل حاسم ف بتجيب الخبر B عشان تثبت بيه A، بس B نفسه مفيش عليه دليل حاسم غير الخبر C، والخبَر C بردو مفيش عليه دليل حاسم معرفياً ف بتضطر تجيب الدليل D، وهكذا إلى ما لا نهايه. المنظومات اللي بتنظر في أخبار الأشخاص وحياتهم وقدراتهم مش هاتؤدي إلى معارف موثوقه.
وحتى لو لقيت خط من ال informants وعندك أخبار تخليك تتطمن لسماتهم الشخصيه ووجودهم في السياق التاريخي الصح، هنا كمان في مُشكله خطيره. هو إيه اللي ضمّنك إن الجيل التاني مش هو اللي إختلق الحدث لورا في الجيل الأول؟ يعني خلينا نتخيّل سيناريو لطيف، إن في الجيل التاني بعد الحدث المزعوم، إنتشرت “قصة” معجزة كاهن سيرابيس، وبعد ما بدأت ك urban legend قرر واحد يحوّلها لحدث تاريخي، وتلقّفها من بعده ٣ أشخاص (اللي هم D و E و F) وكل واحد منهم نسب القصّه لشخص من الجيل اللي قبله، سواء بقا الشخص ده كان معروف فعلاً والناس هاتصدق كلامه لأنه مشهور في مجتمع معيّن وذو شأن وسيرته حسنه، أو يكون شخص مُختلق بالكامل عشان يترمي عليه عبء البرهان التاريخي في قصص كتير من اللي بتتحكي في الجيل التاني. لو ده حصل فعلاً من كتبة الجيل التاني إزاي هاتقدر تتحقق من إن الحدث بتاع إن السمكه إتكلمت حصل فعلاً وسط الجيل الأول وشافه فعلا الشهود A و B و C؟ وتخيل لو جه واحد قالك أنا هاكتب تاريخ المدينه اللي حصل فيها المعجزه دي، وسرد معلومات عن الأشخاص المعروفين، وجمع اللي يقدر يتحصل عليه من تفاصيل بخصوص حياتهم. الكتاب ده في حد ذاته هايكون ماده خصبه تساعد أي حد عايز يختلق تسلسل لوصول المعلومه من زمان لدلوقتي إنه يرسم خط لنقل المعلومه من خلال ناس معروفين لأن عنده كتب بتوفرله المعلومات الفرعيه اللي محتاجها عشان يحسِّن ويعقَّد إختلاقه.
المشكله هنا إن كل ما بيتم صناعة نمط معرفي بإعتباره موثوق كل ما اللي عايز يزيِّف شيء بيزيِّفه عشان يواكب معايير النمط ده. يعني لو جبت ناس وعلّمتهم المعايير اللي محتاجها المؤرّخ لدراسة أي حدث وقررو يزوّرو ف هم هايزوّرو عشان ينتجولك دليل تراكمي تتحقق فيه معايير التّاريخ اللي إتعلّموها وبيفكّرو بيها. وبالتّالي في العالم القديم لو حد عايز يختلق حدث مش هايكون ساذج بدرجة إنه يقولك الحدث وخلاص وهو عارف إن بينه وبين الحدث ١٠٠ أو ٢٠٠ سنه، بالعكس، العالم القديم كله عارف إن النقل الشفاهي له سلطه، وإن الحدث عشان يكون مُعتبر لازم يكون مُشتهر وبيرجع لشهود عيان، وبالتّالي لما ييجي يخترعلك حدث هايحققلك المعايير اللي انت بتدور عليها أساساً. وبالتّالي كون إنه يتوفّر عندك معايير التّاريخيّه بشكل ظاهري ده لا يستوجب إن المعايير دي كلها مستوفاه وإن الحدث تاريخي فعلاً، ممكن تكون المنظومه بتسمح بالإختلاق وإنت متعرفش، أو اللي بيختلق أساساً معاه الأدوات بدرجه تخليك متعرفش تميّز إمتا هو بيتلاعب عشان يستخدم المنظومه لصالحه.
هل اللي أنا قولته ده يستحيل عقلاً؟ هل الثقه في المنظومه اللي فيها الإحتمالات دي أكبر من الثقه في معرفتنا عن الطبيعه وإن السمك مش بيتكلم؟ هل تقدر تبني تصوُّرَك عن العالم وعن سير الطّبيعه وعن التّاريخ فقط على منظومة ثقه؟ وهل المنتج بتاع المنظومه دي يعتبر “يقين”؟
أما بقا لو جيت للنقل المكتوب ف حدِّث ولا حرج، هاتلاقي على الموقع مقال عن دراسه إتعملت على النصوص البوذيه اللي إتنقلت شفاهة وبعد كده تم تدوينها، وتقدر تشوف ال pattern بتاعت التطوُّر اللي بتحصل للنصوص سواء في مرحلة الشفاهه أو في مرحلة التدوين.