أغيا صوفيا …. القلب النابض للعالم المسيحي الأرثوذوكسي

Hesham M. Hassan

هشام محمد حسن (1975- ): من مواليد القاهرة. تخرَّج في كلية الآداب قسم الدراسات اليونانية واللاتينية (الكلاسيكية) بجامعة القاهرة. حصل على الماجستير والدكتوراه (امتياز) في فقه اللغة البيزنطية وآدابها من جامعة أثينا. تتركز اهتماماته العلمية على العلاقات العربية-البيزنطية، وكذلك دراسات صورة "الآخر". شارك في العديد من المؤتمرات العلمية الدولية وله العديد من الأبحاث المنشورة في دوريات علمية محكمة. وهو الآن أستاذ مساعد في قسم اللغويات التطبيقية في الجامعة الهيلينية-الأمريكية في أثينا.

د. هشام محمد حسن

أستاذ مساعد / فقه اللغة والأدب البيزنطي

الجامعة الأمريكية – أثينا

تحتل كنيسة أغيا صوفيا[1] مكانة خاصة في بؤرة شعور العالم المسيحي الأرثوذوكسي بوصفها قلبه النابض الذي تغذيه روافد المسيحية الأولى. ووفقاً للمصادر التاريخية البيزنطية أن الإمبراطور قنسطنطين الكبير (324-337م) هو الذي قام بتأسيس مدينة القسطنطينية كعاصمة لإمبراطوريته الشرقية –التي عُرفت في بدايات القرن العشرين باسم بيزنطة-، وتباعاً شيد بها كنيسةً أطلق عليها مسمى “أغيا صوفيا”[2]،. وسرعان ما اضحت هذه الكنيسة مركزاً للعالم الأرثوذوكسي ورمزه المنير في العالم المسكون، ووعظ فيها أكبر آباء الكنيسة الشرقية مثل القديس يوحنا ذهبي الفم (ت. 407م) John Chrysostomos. كما شهدت هذه الكنيسة عدداً من أهم المجامع الكنسية التي تركت بصمات غائرة في تاريخ الأرثوذوكسية كلها ومعتقدها[3].

وفي عصر الإمبراطور جستينيان (ت.565م) تم ادخال تغييرات معمارية كبيرة على شكل هيكلها الأول، واستعان الامبراطور في ذلك بإثنين من أمهر مهندسي آسيا الصغرى ؛ وهما أنثيميوس التاليسي وإيسيذوروس الميليتي، اللذان أحدثا إعجازاً معمارياً في شكل البازيليكا الرئيسي، وقاما بتغيير هيكل الكنيسة برمته بطريقة لم يشهدها العالم كله شرقاً أو غرباً. ومنذئذ ذاع صيتها في أنحاء العالم المسكون، وأضحت بمثابة فنارة للعالم الأرثوذوكسي على مر العصور.

ولعبت هذه الكنيسة بالذات دوراً مهماً في القرن العاشر الميلادي (988م) أثناء اعتناق الروس الديانة المسيحية على المذهب الأرثوذوكسي. وتنقل لنا المصادر قصة أمير كييف “فلاديمير” الذي أعلن عن رغبته في نبذ الوثنية واعتناق إحدى الديانات التوحيدية الثلاث، وتباعاً قام بدعوة وفود إلى بلاطه تمثل الديانات التوحيدية الثلاث (اليهودية، المسيحية، والإسلام) وكي يبدو منصفاً  دعا رجال ملة اللاتين الكاثوليك إلى جانب ملة الروم الأرثوذوكس كي يسمع منهم الأسباب التي تدفعه إلى اعتناق دينٍ بعينه. وبعد ذلك قام بارسال وفود من الروس لأصحاب هذه الديانات التوحيدية للاطلاع على طقوس عباداتهم والتعرف عليها عن كثب. وتطلعنا المصادر بأنه بمجرد وصول أعضاء الوفد الروسي المُرسل للقسطنطينية كنيسة أغيا صوفيا لحضور صلاة القداس ارسلوا له اتباعه قائلون: “لم نستطع أن نفرق أين نحن !! شعرنا أننا لسنا على الأرض بل في السماء”[4].

ونستخلص من المصدر السابق مدى الشعور بالروحانية التي شعر بها وفد فلاديمير رغم عدم إلمام أعضائه باللغة اليونانية، إذ أنهم بلا شك تأثروا بقداس الصلاة وبالألحان الأرثوذوكسية والترانيم الرومية-البيزنطية، واستحوذت على خلجاتهم حالة الورع والخشوع التي كانت تسيطر على قلوب المصلين.

بيد أن الكنيسة تعرضت للنهب والسلب في العام 1204م كنتيجة للصراع السياسي ذي الصبغة اللاهوتية الذي نشأ بين الغرب اللاتيني وعاصمته روما والشرق اليوناني البيزنطي وعاصمته القسطنطينية، حيث استولى اللاتين على عاصمة البيزنطيين وفرضوا سيطرتهم عليها وقاموا بتقسيم أملاك الدولة البيزنطية فيما بينهم. وظل الوضع في سجال من المنازعات والحروب من أجل استعادة القسطنطينية من اللاتين الذين فرضوا سطوتهم عليها، حتى تمكن الإمبراطور ميخائيل باليولوغوس (ت.1282م) من استعادتها منهم في 25 يوليو 1261م.

ومما لا شك فيه أن هذه الصراعات والحروب أضعفت الإمبراطورية البيزنطية وأوهنتها بشكل كبير، فلم تعد تلك الإمبراطورية العاتية التي تقف شامخة في وجه المعتدين، بل صارت ظلاً شاحباً لها.

  • القسطنطينية والعرب قبل الاسلام:

كانت علاقة القبائل العربية البدوية بالقسطنطينية قديمة، ولها جذور تاريخية تعود إلى ثلاثة قرون قبل الإسلام، حيث استعان بهم الإمبراطور البيزنطي فالنس (ت.378م) للدفاع عن القسطنطينية نفسها وحمايتها من غارات  السكيثيين -Schythians والقوط -Goths عام 378م[5]. ويذكر الجندي الروماني والمؤرخ أميانوس ماركيلينوس (ت.400م) في كتابه عن تاريخ روما والمعنون “Res Gestae” العرب البدو الذين شاركوا في الدفاع عن القسطنطينية بوصفهم قوم يتمتعون بقدرات خاصة على استخدام الخيول، وشهد لهم ببراعتهم الفائقة في شق صفوف العدو[6].

كما زارها الشاعر النصراني عدي بن زياد العبَّادي (ت.587م) ولقي استقبالاً حافلاً في بلاط الإمبراطور جستين الثاني ؛ وعندما حان وقت عودته للحيرة زوده الإمبراطور بالخيول والمؤن وغيرها من الإمدادات، الأمر الذي ترك أثراً كبيراً في نفس عدي الذي فُتن بقوة الإمبراطورية وثرائها وجمالها ودفعه إلى نظم شعرٍ تغنى فيه بالقسطنطينية وببهائها. وفي هذا السياق لا تفوتنا زيارة إمرؤ القيس (ت.540م) إلى القسطنطينية من أجل طلب العون من الإمبراطور البيزنطي رغبةً في مساعدته على استعادة ملكه الضائع. ومن المصادر نعلم أن الإمبراطور جستينيان (ت.565م) تعاطف مع إمرؤ القيس، إلا أن شاعرنا العربي وافته المنية وهو في طريقه إلى شبه الجزيرة العربية[7]. كما أن الحارث بن جبلة (ت.596م) عُين حاكماً “Phylarchos-φύλαρχος” على عرب الغساسنة من قبل الإمبراطور جستينيان في أوائل القرن السادس بهدف حماية حدود الإمبراطورية من غارات النهب والسرقة التي كان يشنها عرب شبه الجزيرة البدو. وتذكر المصادر البيزنطية أن الحارث قام بزيارة القسطنطينية من أجل مناقشة مسألة الخلافة في مملكة الغساسنة ؛ ويذكر لنا المؤرخ يوحنا الإفسسي (ت.586م) أن الحارث ترك انطباعاً قوياً في ربوع البلاط الإمبراطوري لدرجة أن جوستينوس، ابن أخ الامبراطور جستينيان عندما طَعن في السن وأصيب بالهذيان، صار رجال البلاط يسعون إلى تخويفه بالقول إنهم سيجلبون له الحارث بن جبلة، فكان يرتجف ويهرع إلى غرفته متمتماً بكلماتٍ غير مفهومة[8].

ومما سبق يتضح لنا أن العرب قبل الاسلام قاموا بزيارة القسطنطينية وكانوا يعرفونها ويدركون مكانتها في العالم المسكون.

  • القسطنطينية والعرب بعد الإسلام:

منذ بداية عصر الفتوحات الاسلامية كان المسلمون على علمٍ بجيرانهم الروم-البيزنطيين الأقوياء وعاصمة إمبراطوريتهم العتية “القسطنطينية”. ومنذ بواعث الإسلام الأولى عبر الخلفاء الأمويون عن رغبتهم في فتح هذه المدينة العظيمة، ورفع كلمة الإسلام فيها تأثراً بالحديث المنسوب للرسول محمد (ت.632م) (صلعم) “لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش”[9]. وفي أقصى الغرب كان المسلمون في إسبانيا على دراية بالقول المنسوب للخليفة عثمان بن عفان (ت.656م) بأنه سيتم فتح القسطنطينية عن طريق الأندلس، فإذا نجح المسلمون في فتح الأندلس فسيكونون مع هؤلاء الذين سيفتحون القسطنطينية[10]. ويذكر الأسقف والمؤرخ الأرميني “سيبيوس-Sebeos”  (ت.661م تقريباً) أول غزوة قام بها العرب المسلمون ضد القسطنطينية سنة 654م، والتي باءت بالفشل ولم تؤت ثمارها. ثم قام الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت.717م) بتجهيز حملة كبيرة بقيادة أخيه مسلمة بن عبد الملك بهدف ضرب الحصار على مدينة القسطنطينية واخضاعها لإمرة المسلمين بعد فتحها، والذي بدأ بالفعل في 25 أغسطس عام 717م واستغرق مدة عامٍ كاملٍ، غير أن الشتاء القارص وانتشار الأمراض وتفشيها بين صفوف المسلمين المرابضين على أسوار المدينة أجبرهم على فك الحصار واضطر العرب المسلمون بعدها إلى الانسحاب والعودة للخلافة دون تحقيق أي انتصار يُذكر.

واصبح اسم مسلمة مرتبطاً بمسجدٍ يُزعم أنه بناه على سور مدينة القسطنطينية. إلا أن المتخصصين في التاريخ البيزنطي اختلفوا حول حقيقة هذا المسجد. فمنهم من زعم أنه كان هناك مسجدٌ في القسطنطينية قبل حصار عام 717م كان العرب المسلمون المتواجدون في المدينة يؤدون فيه صلواتهم، وبعد الحصار أطلقوا عليه اسم “مسجد مسلمة” (نسبة إلى مسلمة بن عبد الملك)، ومنهم من قال إن مسلمة بناه قبل رحيله وعودته إلى مقر الخلافة. بيد أنه لا يوجد دليل تاريخي قاطع على أن مسلمة هو الذي شيده وبناه ؛ ويميل الكثير من المتخصصين إلى الرأي القائل بأن البيزنطيين هم الذين قاموا ببنائه استجابة لاحتياجات المسلمين الدينية، خاصةً وأنه كان يعيش في مدينة القسطنطينية عدد لا يستهان به من التجار والمسافرين والأسرى واللاجئين المسلمين[11].

ومع اختلاف الرؤية الإسلامية بين الخلافة الأموية والعباسية نلاحظ أن الخلفاء العباسيين لم يهتموا بإحياء “فكرة” فتح القسطنطينية، حتى أننا نجد الخليفة هارون الرشيد (ت.809م) يصل إلى مشارف بحر مرمرة عام 782م، ولكنه يكتفي بأخذ الجزية من الإمبراطورة إيريني ودونما اكتراث بإحياء فكرة فتح المدينة نفسها! حتى أن الشاعر مروان بن حفصة (ت.798م) قام بمدح هارون الرشيد واطرى عليه الثناء بسبب حصوله على الجزية من الإمبراطورة البيزنطية ولم يتطرق إلى فكرة فتح القسطنطينية نفسها وكأن الفكرة اضحت في طي النسيان.

وبحلول القرن التاسع أدرك مسلمو الخلافة العباسية وخلفاؤها أنه ليس بإمكانهم فتح القسطنطينية في المستقبل القريب، وأصبح تحقيق هذا المأرب الذي طال انتظاره أمر صعب المنال على مستوى المُدرك الإسلامي، وعليه أخذت فكرة الفتح تتقلص حتى ضاعت ارهاصاتها بمرور الزمن وتحولت إلى مجرد مُدركات اسكاتولوجية عملت بدورها على ترحيل فكرة فتح القسطنطينية إلى نهاية الزمن وربطها باليوم الآخر وظهور المسيح الدجال.

أما بالنسبة للمسيحية كديانة وكينونة في كل من الشرق والغرب ؛ فسبب قدرتها على البقاء -على الرغم من التوسع الهائل للخلافة الإسلامية- لم يكن بسبب هزيمة العرب المسلمين في أقصى الغرب الأوروبي في معركة بلاط الشهداء-بواتييه عام 732م كما حاول أن يثبت المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (ت.1794) ؛ فبقاؤها كان نتاجاً لفشل جيش مسلمة بن عبد الملك في فتح القسطنطينية عام 717-718م. فإذا تحقق الفتح آنذاك لكان مصير أوروبا كلها هو اعتناق الاسلام ولأصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في أوروبا بأسرها.

وبالنسبة لصورة القسطنطينية في الأدب العربي الوسيط فنراها مرسومة بألوان براقة وبحروف من الذهب ؛ فيكفينا أن نجد المسعودي (ت.956م)، وهو من أشد المتعصبين لبغداد وجمالها، يطلق علي القسطنطينية اسم “ملكة المدن”[12] وهي ترجمة صحيحة وأمينة لنفس المسمى الذي كان يطلقه عليها البيزنطيون أنفسهم، والذي لا يزال يستخدم في لغة الروم-اليونانيين حتى وقتنا هذا وهو مسمى “الفاسيليفوساΒασιλεύουσα-   Vasilevousa-“[13]. وزد على هذا الوصف أوصاف أخرى رائعة وشيقة كثيرة نقلها لنا شهود عيان من العرب كانوا قد عاشوا فيها كأسرى ؛ مثل الأسير هارون بن يحيى وزوارها من الرحالة أمثال ابن رستة (ت.912م) وابن بطوطة (ت.1377م).

  • العثمانيون وملكة المدن “القسطنطينية”:

وقف محمد الفاتح (ت.1481م) مدة 53 يوماً أمام أسوار مدينة القسطنطينية المنيعة منذ السادس من أبريل العام 1453م، وبدا وقتها عازماً على فتح المدينة مهما تكلف الأمر؛ ولم يكن الأمر مقتصراً فقط على الحصار بل كان بمثابة قصف مستمر لأسوار المدينة ليل نهار. وتذكر المصادر التاريخية أنه أمر بتصنيع أكبر مدفع على وجه الأرض آنذاك خصيصاً لها، عسى أن يتمكن من إحداث ثغرة في سور القسطنطينية المنيع. وفي صباح يوم 29 مايو العام 1453 تمكن جنود محمد الفاتح، بعد كل هذا القصف من إحداث ثغرة في موضع محدد في السور –كان قد دله عليها بعض الخونة من سكان المدينة البيزنطيين- ودخل جنود محمد الفاتح المدينة وما لبثوا أن اشتبكوا في قتال عنيف مع البيزنطيين، حتى أن الإمبراطور البيزنطي قنسطنطين باليولوغوس (ت.1453م) لقى حتفه بعدما قاوم ببسالة الفاتحين العثمانيين. وتذكر لنا المصادر البيزنطية أنه كان باستطاعته الهرب والفرار، ولكنه رفض رفضاً قاطعاً التخلي عن المدينة وسكانها رغم أنه كان يعرف حق المعرفة أن موته لا محالة منه.

وبعد القضاء على المقاومة البيزنطية، استحل الجنود العثمانيون المدينة وكل من فيها ونُهبت عن بكرة أبيها ؛ وبما أن فتح المدينة تم عنوةً وليس سلماً فكان من حق محمد الفاتح إما أن يقسم خمس الغنائم بين الجنود المجاهدين أو أن يتم وقفه لعامة المسلمين. وتذكر المصادر العثمانية أن محمد الفاتح منع جنوده من نهب كنيسة أغيا صوفيا، وقال لهم: “لكم الأسرى والغنائم، أما البنايات فهي لي”. أما الكتاب البيزنطيون المعاصرون للحدث نفسه مثل “غيورغيوس فراتزيس”، و”ميخائيل ذوقاس”، و”ميخائيل كريتوفولوس”، و”ليونديوس خالكوكونذيليس” فيذكرون واقعاً مختلفاً وصورة أخرى مرسومة بالدماء في مصادرهم التاريخية المعاصرة للحدث نفسه ؛ إذ تتفق جميعها على أن جزءً كبيراً من جموع الشعب البيزنطي -بعد دخول العثمانيين المدينة- هرع نحو خليج البوسفور خوفاً من التقتيل والذبح، وتوقا اللحاق بسفن الجنوية والبنادقة التي كانت راسيةً في الخليج، إلا أن السفن أغرقت أمام أعينهم، الأمر الذي نتج عنه سقوط حشود كبيرة في خليج البوسفور … أما بالنسبة للحشود الأخرى التي هرعت لتختبىء في كنيسة “أغيا صوفيا” أملاً في حماية العذراء لها، وتضرعاً لأيقونات الرب عسى أن ينقذها من بطش الجنود العثمانيين، فقد حل بها نفس المصير لأن الجنود اقتحموا الكنيسة، وأعملوا القتل والذبح  بكل من كان بداخلها.

ويزعم بعض المؤرخين العرب المعاصرين أن محمد الفاتح قام بتغيير اسم المدينة بعد فتحها مباشرة وأطلق عليها مسمى “اسطنبول” أو “استنبول”، أي أنه غير اسمها عوضاً عن اسم القسطنطينية (التي تعني مدينة قنسطنطين الكبير) محاولاً طمس هويتها الرومية-البيزنطية ! وهذا هراء علمي لأن مسمى “اسطنبول” هو يوناني بيزنطي ويعني “في المدينة-εις την Πόλιν – eis ten polin” ؛ إذن محمد الفاتح لم يأت بمسمى جديد من بنات أفكاره ولم يطلق على المدينة اسماً له علاقة ببيئته الأناضولية العثمانية ولكنه استبدل مسماً يونانياً بكلمة يونانية أيضاً.

  • مصير كنيسة أغيا صوفيا بعد الفتح:

سبق وذكرنا أن المدينة لم تُفتح صلحاً ولكنها اُخِذت عنوة من سكانها البيزنطيين، وبما أن محمد الفاتح كان مسلماً فمن الطبيعي أن يكون مأربه هو إرساء دعائم الهوية الإسلامية في مدينة القسطنطينية. وتباعاً قام محمد الفاتح بإصدار أوامر تتعلق بتحويل الكنيسة إلى مسجد واحتفظ باسم أغيا صوفيا كاسمٍ للمسجد.

وهنا لنا وقفة، فمن يقرأ التاريخ يعرف أنه ليست هذه هي المرة الأولى التي نرى فيها مسجداً يحمل اسماً مسيحياً في التاريخ العربي الاسلامي. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نذكر أنه في خضم فترة الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي، قام العرب الفاتحون ببناء مسجدٍ لصيقٍ بكنيسة القديس “سرغيوس” في مدينة سيرغيوبوليس-الرصافة في الأردن الآن-، وأطلق المسلمون العرب على هذا المسجد اسم “مسجد القديس سرغيوس”[14]. ويتبين لنا أن العرب المسلمين الأوائل لم يشعروا بالخزي من جراء هذه التسمية. أما بالنسبة لتحويل الكنائس إلى مساجد أثناء فترة الفتوحات الاسلامية في القرن السابع الميلادي فنجد دراسات علم الأثار المهتمة بتلك الفترة تؤكد على أن العرب المسلمين الفاتحين لم يقوموا بتحويل الكنائس إلى مساجد، وأن بيوت المسيحيين وبناياتهم متعددة الأغراض لم تتعرض لأعمال تخريب وتدمير[15].

وفي هذا السياق نود أن نذكر المفاوضات الطويلة التي خاضها الخليفة الوليد بن عبد الملك (ت.715م) مع زعماء الطائفتين المسيحيتين النسطورية واليعقوبية في دمشق حينما رغب في ضم كنيسة يوحنا المعمدان إلى المسجد الأموي ؛ وكيف أن القساوسة رفضوا طلب الخليفة أول الأمر ثم اذعنوا فيما بعد بعدما أقر الخليفة بأنه مُلزم بتعويضهم ومنحهم أربع كنائس أخرى يتم بناؤها من خاص بيت مال المسلمين[16].

 ويكمن السبب في اعطاء هذين المثالين السابقين في القاء الضوء على الفارق بين الفتح صلحاً والفتح عنوةً ؛ فالمسلمون الأوائل فتحوا الكثير من المدن صلحاً، ولهذا رأينا هذه التصرفات السمحة التي تعكس روح الإسلام الحقة، أما في حالة محمد الفاتح فالأمر كان مختلفاً تماماً لأنه لم يكن هناك صلحاً.

وتذكر المصادر العثمانية أنه تم بناء منارة خشبية بجانب هيكل الكنيسة نفسه واُستخدمت كمئذنة في البداية، ولكن مع مرور الوقت تم إزالتها وتشييد الأربع مآذن التي يراها الزائرون الآن حول هيكل الكنيسة الرئيسي.

  • مصير سكان المدينة بعد الفتح:

تطرقنا آنفاً للفرق بين صورة الفتح عند الكتاب العرب والعثمانيين من جهة وصورته عند الكتاب البيزنطيين المعاصرين للأحداث من جهةٍ أخرى ؛ وانطلاقاً من هذا سنحاول جاهدين أن نأخذ طريقاً وسطاً بين المصادر المختلفة فيما بينها من حيث الرؤية. من المؤكد أن فتح المدينة لم يكن بمثابة انتظار السكان الروم-البيزنطيون للجنود العثمانيين بأغصان الغار وسعف النخيل داخل المدينة كما تصوره لنا بعص المصادر العربية والعثمانية كتجسيدٍ لفكرة الفتح المبين ؛ كما يجب الأخذ في الاعتبار حيثية نزعة المغالاة والافراط في سرد الأحداث من جانب الكتاب البيزنطيين -حتى ولو كانوا معاصرين للأحداث- لأنهم في المقام الأول بشر خضعوا لتأثير الانفعال النفسي الطبيعي نتيجة شعورهم بضياع المدينة وفقدانها وخسارة مجد إمبراطوريتهم مما سيترتب عليه من طمس هويتهم الرومية في المنطقة إلى الأبد.

          ففي خضم هول فتح المدينة نجد أن بطريرك القسطنطينية نفسه، أثاناسيوس الثاني (1450-1453) تم قتله، وتعرضت جثته للتمثيل على أيدي الجنود العثمانيين، الذين لم يكتفوا بقتله، بل علقوا جثته على بوابة البطريركية في فاران (وتجدر الاشارة إلى أن بطريركية الأرثوذوكس تحتفظ بردائه الكنسي المخضب بالدماء في قاعة خاصة داخل البطريركية حتى وقتنا هذا). وظل كرسي البطريرك شاغراً من بعد الفتح في 29 مايو 1453م حتى 6 يناير 1454م، عندما قام محمد الفاتح بتعيين الراهب غيناذيوس سخولاريوس بطريركاً للروم الأرثوذوكس من أجل مراعاة مصالح الروم-البيزنطيين الذين آثروا المكوث في المدينة وعدم هجرها والبحث عن موطن آخر في العالم المسيحي. ولم يكن اختيار الراهب غيناذيوس سخولاريوس اختياراً عفوياً فقد كان محمد الفاتح يعرفه جيداً، ويعرف أنه عدو لدود للاتين، ومن ثم كان محمد الفاتح واثقاً أنه لن يحاول التواصل مع اللاتين والاشتراك في أية مؤامرة ضده. وفي الوقت نفسه ترك للروم كنائسهم في منطقة الفنار كما هي، إضافة إلى مقر البطريرك والبطريركية، وأعطى للبطريركية حرية التصرف في كنيسة الرسل القديسين التي كان يُدفن بها الأباطرة البيزنطيون وهي الآن أكبر صرح كنسي في مدينة اسطنبول.

ويتضح من هذا أن محمد الفاتح لم يكن هدفه الأساسي الخوض في عملية تطهيرعرقي للجنس الرومي-البيزنطي في المدينة  ؛ وأن الأوضاع بعد الفتح أخذت منحنى آخر يحمل في طياته شكل من أشكال التعددية الإثنية. فهناك عائلات رومية-بيزنطية بقيت قي المدينة واشتهرت فيما بعد بثرواتها وكثرة أموالها وتجارتها، مثل عائلتا “نوتاراس” و”ستايكوس” المسيحيتان وغيرها من العائلات الرومية التي كانت بمثابة حلقة وصل تجاري وحضاري بين الخلافة العثمانية من جهة، واليونانيين والروس والبنادقة والجنويين من جهة أخرى.

  • مسجد أغيا صوفيا منذ الفتح حتى العام 1934:

بعدما تم تحويل الكنيسة إلى مسجد استمر الوضع هكذا حتى عصر مؤسس الدولة التركية الحديثة كمال أتاتورك (= كمال أبو الأتراك) الذي قرر في العام 1934 تحويل المسجد إلى متحفٍ للتراث العالمي ووضعه تحت اشراف منظمة اليونسكو. وتجدر الاشارة إلى أن هذا القرار جاء في إطار محاولاته التي بذلها في سبيل نقل الهوية التركية إلى الجبهة العلمانية وطمس معالمها وخصائصها العثمانية، بهدف الاقتراب من أوروبا والغرب والانسلاخ من الملامح الشرقية التي تُؤطر تركيا العثمانية. علماً بأن اليونان لم تمارس في تلك الفترة أية ضغوط سياسية ودبلوماسية على الحكومة التركية بخصوص تحويل مسجد أغيا صوفيا إلى متحفٍ، لأن اليونان ببساطة كانت تعاني في تلك الفترة من توترات سياسية داخلية وحروب أهلية.

          وأثناء حكومة إرباكان (1996-1997)، الذي كان أول رئيس وزراء لتركيا من قِبَل الحزب الاسلامي وممثلاً له آنذاك، تم فتح ملف متحف أغيا صوفيا مرة أخرى من أجل تحويله إلى مسجد؛ وكان وزير خارجية اليونان وقتها ثيوذوروس بانجالوس هو الذي قام بتصعيد الموقف، وناشد منظمة اليونسكو بضرورة التدخل في الأمر، معتبراً المتحف وقتها إرثاً حضارياً للعالم أجمع وليس حكراً لأحد؛ لا للأرثوذوكس ولا للمسلمين.

          ولم يتمكن إرباكان من تحويل المتحف إلى مسجد، واستمر الوضع على ما هو عليه حتى أصدرت المحكمة التركية مؤخراً قراراً يعطي الحق لحكومة أروغان بتحويل المتحف إلى مسجد مرةً أخرى، وهو الأمر الذي قوبل بترحيب كبير من قبل التيار الاسلامي في تركيا، واعلنت حكومة أروغان تباعاً أنها سوف تلغي تذاكر الدخول للمسجد -رغم أن كنيسة أغيا صوفيا يزورها سنوياً حوالى أربعة ملايين سائح ويتراوح ثمن التذكرة حوالي 10 يورو، أي أن حكومة أروغان خسرت 40 مليون يورو سنوياً من السائحين القاصدين زيارة متحف أغيا صوفيا-. وتم الإعلان عن السماح للسائحين بدخول المسجد بدون أحذية وفي غير الأوقات المخصصة للصلوات الخمس.


[1]  آهل بالذكر أن نطقها باللغة اليونانية الحديثة الآن هو بحرف الغين ومن ثم فهي تُنطق “أغيا”؛ ووفقاً للنطق في اليونانية القديمة واللغة البيزنطية فيرجح علماء اللغة اليونانية القديمة أنها كانت تُنطق “هاجيا”.

 [2]  أغيا صوفيا: باليوناني القديم والحديث (Αγία Σοφία) تعني “الحكمة المقدسة” -ولا يوجد أي دليل علمي يثبت أن هذه الكنيسة سميت على اسم قديسة مصرية عاشت في القرن الثاني الميلادي- واصطلاح “الحكمة” على وجه الخصوص ذُكِر في رسائل بولس الرسول كاسم من أسماء المسيح ؛ وفي العهد القديم في الفصل الثامن لكتاب الأمثال : Proverbs ذُكرت الكلمة بدلالة محددة وهي “تجسيد الرب”، وهو الأمر الذي فسره آباء الكنيسة الأوائل بعد ذلك أنه “نبوءة” لقدوم المسيح في العهد القديم. للمزيد أنظر:

Downey D., “The Name of the Church of St. Sophia of Constantinople”, Harvard Theological Review 52 (1959), pp. 37-42.

[3] Webb E., In search of the triune God: The Christian paths of East and West, University of Missouri Press 2014, p. 178ff.

[4] McKenzi A., “Political Aspects in Russian Icons”, in The Millennium: Christianity and Russia, AD 988-1988, ed. Leong A., St. Vladimir’s Seminary Press 1990, pp. 141-158.

[5] Woods D., “The Saracen defenders of Constantinople in 378”, Greek, Roman, and Byzantine Studies 37 no: 3 (1996), pp. 259-279.

[6] Ammianus Marcellinus, Rerum Gestarum Libri, ed. Clark C., Berlin: Weidmann 1910–15, 31.16.

[7]  مصطفي طلاس، الرسول العربي وفن الحرب، دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، دمشق 1977، صـ. 65 ومابعدها.

[8] Nicholson R. A., A Literary History of the Arabs, Cambridge 1969, pp. 51-52.

[9]  الحديث الوارد في الثناء على فاتح القسطنطينية، قد أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن بشر الخثعمي، عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش. والحديث مختلف في صحته، فقد صححه الحاكم والذهبي، وضعفه الألباني، والأرنؤوط في تحقيق المسند. وأصل فتح القسطنطينية ثابت في صحيح مسلم وغيره، دون الثناء على الجيش والأمير.

[10]  الحميري (ت.1495)، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقيق: ليفي بروفنسال، ليدن 1938، ج 3، صـ 6.

; Marin M., ‘Rum in the works of three Spanish Muslim geographers’, GraecoArabica (Athens) 3 (1984), p. 117.

[11] Woods D., “Maslama and the Alleged Construction of the First Mosque in Constantinople c. 718.” in Negotiating Co-existence: Communities, Cultures and “Convivencia” in Byzantine Society, ed. Crostini B., WVT Wissenschaftlicher Verlag Trier 2013, pp. 19-30.

 [12]  المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، الجامعة اللبنانية، بيروت 1966، ج 2، صـ. 26.

[13] Bastéa E., The Rebirth of Athens: Planning and Architecture in the 19th Century, University of California, Berkeley 1989, p. 119, 177, 182.

[14] Fowden K. E., “The Cult of St. Sergius after the Islamic Conquest”, in The Barbarian Plain: Saint Sergius between Rome and Iran, University of California 1999, pp. 174-183 here 179.

[15] Schick Ρ., Christian Communities of Palestine from Byzantine to Islamic Rule: An Historical and Archaeological Study [Studies in Late Antiquity and Early Islam 2], Princeton 1995, p. 160ff.

[16]  ابن عساكر (ت. 1175)، تاريخ مدينة دمشق، ج 2، صـ صـ: 245-255.

Similar Posts

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *