كوباية الشاي اللي غيَّرت التاريخ

تخيل إنك بتنكش في ورق جدك ف لقيت ورقه مكتوب فيها إنه في يوم 15 أغسطس سنة 1955 كان بيغلي ميه عشان يعمل كوباية شاي لكن الميه مرضيتش تغلي، حاول معاها كتير لكن محصلش تغيير، لدرجة إنه جاب ثيرموميتر وقاس حرارة الميه لقاها وصلت 140 وبردو مرضيتش تغلي. روحت انت جبت شوية ميه وسخنتهم وكل مره الميه بتغلي عادي عند 100 درجه. ولأنك بتحب جدك ومصدقه عملت التجربه دي 1000 مره، وفي كل مره منهم النتيجه كانت واحده: الميه بتغلي عند 100 درجه.
_________
لأنك بتحب جدك وعندك معاه ذكريات كتير حلوه وكنت تسمع عنه إنه راجل ذكي ومثقف رفضت فرضية إن في حاجه غلط في القصه، وفضلت مقتنع إن القصه دي حصلت فعلاً، وقعدت تدور على طريقه تثبت بيها إن في ممكن في الظروف الطبيعيه الميه تعدي ال 100 درجه ومتغليش.
_________
ف روحت لواحد صاحبك دارس تاريخ وقولتله الحدث ده في الماضي، وعايز أثبته. أول حاجه سألك عن مصادر القصه، ف قولتله إنها ورقه كانت وسط ورق جدك. ف سألك سؤال غريب شويه: “هو جدك كان شغال إيه وهواياته إيه؟” ف قولتله إنه كان شغال مدرس وكان بيحب الموسيقى وبيكتب قصص قصيره. ف قالك “طب إيه اللي مخليك تصدق القصه بإعتبارها تجربه عملها فعلاً مش جُزء من قصه كان بيألفها؟”. هنا انت إكتشفت مُشكله، هو إيه نوع النص اللي انت قريته وإفترضت إنه حدث طبيعي؟ هل هو نوتة مذكرات بيكتب فيها أحداث حقيقيه من حياته، ولا ممكن ببساطه تكون قصه خياليه كتبها لأي سبب وممكن حتى تكون ناقصه ومتعرفش باقيها ايه؟. طبعاً بعد شوية مقاوحه مع صاحبك بتاع التاريخ قالك إن القصه دي مش حقيقيه وحتى لو حقيقيه مفيش طريقه لإثباتها بالتاريخ لإن التاريخ بيتحرك بالإحتمالات وإحتمالية إن طبيعة الماده تتغيَّر ومحدش يلاحظها غير جدك شبه منعدمه إحصائياً وبالتالي في حلول وأطروحات تاريخيه أكثر ترجيحاً من إن في يوم 15 أغسطس سنة 1955 الميه بطلت تغلي لما جدك كان عايز يشرب شاي.
_________
بعد ما زهقت من الواد بتاع التاريخ ده روحت لواحد صاحبك تاني في كلية علوم وحكيتله القصه. ف صاحبك قالك إن من الفرضيات الأوليه في العلوم الطبيعيه إن الماده مش بتغير خصائصها في الظروف العاديه، ودي فرضيه فاعله working hypothesis وبنجربها كل يوم لما بنستخدم العربيه مثلاً، ف لو كانت الماده خصائصها بتتغير بشكل عشوائي مكانش في أي آله إشتغلت بشكل منتظم. وبالتالي أطروحة إن الميه غيرت خصائصها وبطلت تغلي هي أطروحه ضد الدليل التجريبي والدليل الإمبريقي الإحصائي ومنقدرش نفترض صحتها، وحتى لو حصلت منقدرش نثبت ده.
_________
لما خرجت من عند صاحبك بتاع كلية علوم كنت متضايق جداً، أولاً لأنك مش فاهم جدك كان عايز إيه من الورقه دي، وثانياً إنك حاولت مع المعنى المباشر لكلامه ومعرفتش تثبت إنه صح، ودلوقتي انت مضطر تحاول تجاوب السؤال بس مش عارف تجاوبه إزاي وفي نفس الوقت حاسس إن عليك عبء كبير ومسئوليه تجاه جدك إنك تثبت صحة كلامه.
_________
بس يا سيدي، خرجت من عند صاحبك بتاع كلية العلوم متضايق ومش طايق نفسك، بس عندك إصرار كبير إنك تثبت إن جدك صح، وفي نفس الوقت مش عارف تجاوب أسئلة صاحبك بتاع التاريخ ولا صاحبك بتاع كلية علوم. ف روحت تتمشى في الهوا وسرحت شويه، ووسط مانت سرحان سمعت صوت الست أم كلثوم من بعيد بتغني كلمات إبراهيم ناجي وبتقول “يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صَرحاً من خيالٍ فهوى .. اسقني واشرب على أطلاله .. واروِ عني طالما الدمع روى” وسرحت في الكلمات وفي المجاز، ومع حلاوة صوت الست وانت في لحظة روقان قولت طب والله جدي كان برنس ويعرف يكتب كلام لا يقل مجازاً عن كلام إبراهيم ناجي، وبعد كوبليه كمان من الست لقيت نفسك بتفكر إن يمكن اللي جدك كان كاتبه ده مجاز وانت اللي على عاتقك إنك تفُك سِرُّه.
_________
في لحظه طلعت الموبايل ونكشت على رقم صاحبك بتاع كلية آداب وروحت قابلته على القهوه وحكيتله القصه، وقولتله إنك توصلت لحل وهو إن المكتوب ده مجاز وإنه عايزه يساعدك تفُك معناه. أخد منك الورقه وقراها كذا مره وانت مستنيه يتكلم بس مبيتكلمش. ف سألته ساكت ليه ف قالك أصل مش لاقي المُفتاح. بعد عشر ثواني كنت بتفكر فيهم إنك صاحبك ده عبيط أو مجنون قالك إن المفتاح اللي يقصده مفتاح المجاز، العلامه اللي بيديها الكاتب عشان يقول للقارئ إن النص مجازي. زي مثلاً الصوره اللي رسمها إبراهيم ناجي “يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صَرحاً من خيالٍ فهوى” أكيد يعني الحُب مكانش مبني ووقع، هنا من الواضِح إن في مجاز لإن الصوره مالهاش وجه تتقري بيه غير كده. أي واحد يسمع البيت ده مش هايشتبه تماماً في إنه مجازي.
_________
الكلام معجبكش، وقولتله ما كلام جدي أكيد مجازي عشان الميه بتغلي عند 100 درجه وهو قال إنها كانت 140 ومش بتغلي. ف حاول يشرحلك إن في إحتمالات كتير أوقع من المجاز، من ضمنها إن الثيرموميتر بتاع جدك كان بايظ، ف انت خدت الإهانه تجاه الثيرموميتر بتاع جدك بشكل شخصي ولبست الواد كوباية القهوه في وشه ومشيت من غير ما تحاسب.
_________
كده وبعد ما لفيت على كل أصحابك وكلهم خذلوك مبقاش في حد تاني تروحله. لأ ثانيه! في حد ممكن تروحله. صاحب جدك اللي عنده دلوقتي بتاع 95 سنه. أكيد يعرف حاجه عن الموضوع وممكن يفسرهولك. بعد شوية مكالمات عرفت توصل لمكانه بالظبط وروحتله البيت، وبعد ما خبطت كتير على الباب وشتمك وقفل الباب في وشك مرتين قدرت توضحله إنك حفيد صاحبه وعايز تسأله سؤالين في السريع وتمشي. حكيتله القصه وطبعاً أبدى إهتمام كبير إنه يفتكر صاحب عمره ويتكلم عنه. وريته الورقه وقراها كويس وقالك إن من معرفته القريبه بجدك يعتقد إن جدك عمره ما يكدب ومدام قال كده يبقا حصل فعلاً. أخيراً لقيت حد رأيه من رأيه، واحد كبير في السن وعنده خبره في الحياه وأكيد مش هايسوحك زي العيال أصحابك. صاحب جدك أكدلك إنك لازم تثق في جدك وأي تهاون في حقيقية القصه يعتبر تهاون في سمعة جدك. على الرغم إن في صوت جواك كان بيقولك إن أي تفسير تاني مش بالضروره معناه إن جدك كداب، ممكن ببساطه يكون بيحكي قصه خياليه أو خواطر أو حتى مجاز زي مانت قولت. أصل مش كل حاجه تتصنف صدق وكذب يعني، كلها عنواين بتختلف بحسب نوع النص والهدف منه والسياق وكل دي حاجات انت متعرفهاش وجدك الله يرحمه من بتاع 30 سنه ومش هاتعرف تروح تسأله … على الأقل دلوقتي!
_________
المشكله إن كلام صاحب جدك محلش أسئلة العيال أصحابك، كل الفكره إنه شجعك تكمل وتصدق جدك، بس مفيش حلول للمشاكل اللي جت قدامك ومبقيتش عارف تطلعها من دماغك. وبدأت تفكر تاني في نظريه تجمع كل المعلومات اللي وصلتلها، ف قررت ترجع البيت وتتكلم مع والدك كمحاوله أخيره، يمكن يعرف حاجه عن الورقه دي اللي ممكن تكون إتكتبت قبل ما يتولد بخمس سنين لأنه مواليد 1960. روحتله ووريته الورقه ف سألك عن المكان اللي لقيتها فيه، ف قولتله المكان بالظبط. خد الورقه وبص فيها وقراها كويس، وبعد كده سألك: “إشمعنى قولت إن جدك اللي كتبها؟” ف قولتله أصل بديهي يعني إنها كانت وسط ورقه، وطبعاً معرفتوش تحددو إن كان هو اللي كتبها ولا لأ عشان كانت مكتوبه على آله كاتبه قديمه. وكده ظهرت مشكله رابعه أو خامسه، مصيبه ليكون جدك مكتبهاش أصلاً! وده إحتمال جديد ووارد لإن أخو جدك كان بردو بيكتب قصص قصيره، وأخوهم التالت كان عندو شيزوفرينيا وضلالات وحالته صعبه ومات صغير. تكونش الورقه دي من تأليف عم من الإتنين؟ أو يمكن حتى من تأليف واحد ما أصحاب جدك اللي كانو بيجوله المكتب! الموضوع إتعقد جداً.
_________
دلوقتي مفيش قدامك حل غير إنك تتأكد إن جدك أصلاً هو كاتب الورقه اللي لففتك حوالين نفسك. ف روحت لمحامي صاحبك تسأله عن المسار بتاع البحث ده بيتعمل إزاي. قعد بقا يحكيلك قصص عن اللغويات الجنائيه وموضوع كبير. خلاصة القصه إن اللغويات الجنائيه دي بتحلل لغة نصين عشان تقولك إن كان النصين دول كتبهم نفس الشخص ولا لأ. يعني بيكون عندك نص معروف كاتبه بيقين، ونص مشكوك فيه أو هو محل السؤال، ومن خلال مقارنة المشكوك فيه بالنص المُتيقَّن من كاتبه تقدر تحدد إن كان الكاتب واحد ولا لأ.
_________
لحد هنا الموضوع حلو وإحتمال يجاوبلك السؤال. لو طلع جدك اللي كاتب الورقه هاتتحرك خطوه لقدام وتسأل تاني السؤال اللي فات: هو جدك كان يقصد يكتب نص تاريخي ولا بيحكي قصه خياليه؟ أينعم رجعت تاني للمربع الأول، بس المره دي رجعت بيقين أكبر إن مفيش شك في نسب النص لجدك.
_________
دلوقتي عشان تقدر تحل السؤال محتاج تلاقي حاجه جدك كتبها. وده مكانش صعب، روحت لكام مقال كان نشرهم وجبتهم للمحامي وقولتله يبتدي يبص عليهم. ف قالك أنا أعرف أشرحلك بتتعمل إزاي، بس معرفش أعملها بنفسي، دي عايزه واحد متخصص في اللغويات. وإدالك رقم واحد ممكن يساعدك.
_________
روحت للراجل ده وقرا الورق وقالك تسيبهوله يومين. طبعاً، مشيت وانت متكدر ومش قادر تستنى، عايز تعرف إجابة السؤال يمكن تكون قربت خطوه لإجابة موضوع الميه اللي مبتغليش دي، والمشكله الأكبر والأغرب من الميه اللي مبتغليش هي جدك اللي مبقتش عارف هو صادق وشهد حدث خارق للطبيعه ولا كداب ولا مجرد واحد بيألف قصه وانت اللي خدتها جد شويه.
_________
بعد يومين كنت بتتصل بالراجل قبل معادك معاه بساعتين، أصلك مش عارف تستنى ومستعجل. ف رد عليك ورفض يديك أي تفاصيل في التليفون وطلب إنه يقابلك. روحت قابلته وقالك شئ غريب جداً، قالك الإسلوب اللي في الورقه بتاعت الميه اللي مبتغليش شبه أسلوب جدك، بس شبهه بشكل غريب، شبهه لدرجة إن معدلات تكرار إستخدام الكلمات بتاعت جدك أعلى في الورقه دي من معدلات إستخدامه لنفس الكلمات في الأوراق اللي متأكدين إنه كتبها!
_________
طبعاً للوهله الأولى انت مفهمتش حاجه، ف قولتله يترجم الكلام للعربي. قالك ببساطه إن اللغويات الجنائيه بتستخدم تحليل كمي [عددي] للكلمات والتركيبات النحويه، وغالباً نفس الشخص بيستخدم معدلات متقاربه من التكرار لنفس الكلمات والتراكيب، لكن الورقه اللي جبتهاله دي المعدلات فيها أعلى ب ١٥% من المعدلات اللي لاحظها في الأوراق اللي متأكدين إن جدك كتبها.
_________
ف قولتله يعني ده معناه إن جدك أكيد كتبها! قالك لأ. التشابه اللي بنسب زياده ده قد يكون مؤشر إن حد درس إسلوب جدك وحاول يقلده بتكلُّف كبير لدرجة إنه كرر أسلوب جدك وكلماته بمعدل أكبر من الإستخدام الطبيعي لجدك نفسه. يعني عارف لما تحاول تقلد أسلوب حد في الكلام ف تمسك في لازمه معينه في كلامه وتفضل ترددها بشكل يخليك باين fake أوي؟ هو ده بالظبط اللي ممكن يكون حصل. حد حاول يكتب حاجه بأسلوب جدك ومكملهاش، ويمكن وراها لجدك وجدك حطها وسط ورقه.
_________
هنا زادت مشكله جديده على مشاكلك. وإكتشفت إن سؤال واحد جر وراه أسئله كتير جداً مش عارف تجاوب ولا واحد منها بيقين يخليك تتحرك خطوه لقدام. في الأول كان سؤالك عن إمكانية كسر حاجه بنشوفها إعتياديه زي درجة غليان الميه، وبعد كده تدخَّلت العاطفه في السؤال لما المعلومه جتلك من جدك اللي بتحبه. وبعد كده إكتشفت إن حتى لو جدك قال كده ف انت مش عارف هو قصد ده فعلاً ولا قصد المجاز. وكمان رجعت خطوه لورا وسألت عن نوع النص اللي كتبه، هو ده مذكرات أو يوميات كان بيسجلها ولا كان بيكتب قصه خياليه، لأن في حالة إنه بيكتب قصه هنا مبقاش المعيار الصدق والكدب، وبقا الهدف منه التسليه بس. وفي الآخر إصطدمت بمشكله أكبر هي إنك مش ضامن أصلاً إن جدك كتب الكلام ده سواء عرفت نوعه والقصد منه أو معرفتش.

Similar Posts