المؤرخ بين المُعجِزه وشذرات الماضي

الجُزء الأول: خبر بتاريخ 14-مارس-2017

المصري اليوم بتاريخ الثلاثاء 14-03-2017: “أهالى قرية يُخرجون جثمان «شيخ» من قبره بعد 73 يوماً بسبب «رؤيا جماعية»”

[الخبر للصحفي عمر الشيخ]

شهدت عزبة «عمرو البحرية»، التابعة لقرية «صفط الخرسا»، بمركز الفشن ببنى سويف واقعة غريبة، أمس الأول، حيث خرج مئات الأهالى من منازلهم إلى المقابر المجاورة لبيوتهم، مصطحبين طلعت رمضان جنيدى، صراف بالضرائب العقارية، وقاموا بفتح مقبرة والده الشيخ رمضان، بعد وفاته ودفنه بـ73 يومًا بسبب رؤيا قال الأهالى إن أكثر من 50 شخصاً من أصدقاء الشيخ قد شاهدوها، وجاء فى الرؤيا «أن الشيخ موجود فى حدائق واسعة وكأنه فى الجنة»، حسب قول عدد منهم.

وأخرج الأهالى الجثمان من المقبرة وهتفوا: «الله أكبر.. مدد يا محمد.. جسم الشيخ رمضان سليم»، ووضعوه فى النعش مرة أخرى، وشيعوا جثمانه على دقات الطبول والمزمار البلدى من المقابر إلى منزل تابع لأسرة الشيخ موجود فى أول عزبة عمرو البحرية، وأعادوا دفنه فى المنزل، وأقاموا مقامًا له داخل إحدى الغرف، ووضعوا صورته وأكدوا أنه أحد أولياء الله الصالحين.

الجُزء التاني: تعليقي على الخبر

لو انت مؤرِّخ ومطلوب منك تطرح قراءه تاريخيه لإيه اللي ممكن يكون حصل يوم 12 مارس 2017 هايكون قدامك مُشكله، لو فتحت باب الميتافيزيقا في تفسير الحدث هاتلاقي قرائتك قراءه فئويه، يعني القراءه دي يقبلها صوفي على إعتبار إنها ظهرت في وسط جماعه صوفيه، بس اللي مش صوفي، أو من دين تاني هايجد صعوبه في التعاطي مع فكرة إن المُعجزات بتحصل عند مُخالف. وبالتالي كمؤرِّخ بتحاول تدرس الحدث مينفعش ببساطه تفسَّر الحدث بإعتباره مُعجزه.

لو قريت الخبر من برا كده هاتلاقي مُعطياته كالتالي: (1) أهالى قرية (2) يُخرجون جثمان «شيخ» من قبره (3) بعد 73 يوماً (4) بسبب «رؤيا جماعية».

ولما تقرا التفصيل هاتلاقي إن الناس دي يربطهم رابط آيديولوجي وهو إنهم على الأرجح بينتمو للطريقه الصوفيه اللي لا تمنَع عقيدياً من بناء الأضرحه. النقطه الأولى مفيش فيها مُشكله، على الأرجح الناس فعلاً كانو من أهالي نفس القريه، ويربطهم نفس الإعتقاد اللي بيسمح بإن بعض الناس أولياء، وإن بناء أضرحه ليهم وارد أو حتى واجِب، وإن الرؤيا حَق. النقطه التانيه الخاصه بإستخراج الجثمان بردو غالباً حقيقيه، ولقرب الحدث زمنياً الصحفي قدر يخاطِب الشرطه ويسمع منهم نتيجة التحريات الأوليه، والنقطه التالته غالباً بردو مُرجح صدقها وهي إن إستخراج الجثمان حصل بعد 73 يوم من الوفاه لأن ده بالتأكيد باين من تاريخ شهادة وفاة الشيخ. يتبقى النقطه الرابعه وهي الأكثر غموضاً، هل الرؤى الجماعه أو الهلاوس الجماعيه بتحصل؟ لو هاتتحرك من مُقدِّمات دينيه آه بتحصل، لو هاتتحرك من مُقدِّمات سايكولوجيه رؤى النوم مبتحصلش بشكل جماعي، لكن الهلاوس الجماعيه ظاهره معقده جداً وأنا بنفسي شوفت هلاوس جماعيه قبل كده.

لكن السؤال المهم هنا هو إيه المقصود بالرؤيه عند الناس دي؟ هل الناس دي شافت شئ وهم نايمين فعلاً؟ ولا الناس دي حسِب برغبه في تكريم المتوفى وأصبغوها بالرؤيا خصوصاً إن لغوياً بيتم إستخدام الإراده والرغبه بالرؤيه والنظر، زي مثلاً لما تسأل حد عن رأيه بعباره زي “شايف إيه؟” ف يقولك “أنا شايف إن الأحسن كذا”، وده منتشر في لغات كتير وأشبه بكونه universal. هنا السؤال بتاع المؤرخ دخل في مجالات تانيه أكبر من كون الحدث المذكور في الخبر حصل ولا محصلش، في جوانب كبيره أكثر تعقيداً من السؤال الساذِج عن ظاهر الخبر.

النقطه الأكثر أهميه اللي تشغل المؤرِّخ هي الشهود والمصادِر. لو المؤرخ ده هايعمل شغله صح أول حاجه هايفكر فيها إنه هايروح يستجوب الشهود، وهايشوف مين فيهم بيدعي إنه شاف رؤيا فعلاً ومين سمع وصدق حد قال إنه شاف، وهايستفهم منهم عن شافو إيه بالظبط وشافوها في النوم ولا في اليقظه وهايتمد شغله لأدوات برا التاريخ من نوعية تحليل الخطاب ونقدر المصادر والنقد الأدبي اللي هايساعده يشوف مسار تطور القصه. خلي بالك إننا بنتكلم عن التعقيد ده كله في حدث حصل في 2017. تخيل لو بنتكلم على حد مر عليه قرون ومش باقي منه غير نصوص مؤدلجه، ساعتها شغل المؤرِّخ بيفضل محصور في مساحة الأدب وعشان تخرج من الأدب بقرار تاريخي الموضوع بيكون شديد الصعوبه والتعقيد.

واحده بردو من أكبر المُشكلات هي إنحيازات الروايه اللي وصلتلك نفسها، يعني مش معنى إن الخبر بيعمل framing للحدث بإعتباره مُعجِز إن اللي حصل في الحقيقه كان مُعجِز. مش معنى إن الناس صدقت كده وصاغت رواياتها في القالب ده إن التاريخ بالضروره كان كده أو كان مُعجِز بصوره أو بأخري. التاريخ هو إعادة بناء، وإعادة البناء بتقوم على شذرات متبقيه من الماضي، أوقات كتير اللي حصل فعلاً بيكون ضاع، وبيكون اللي باقيلك هو أسطورة الجماعه اللي بتروِّج قناعاتها، مش معنى إن الأخبار اللي وصلتلك بتفضَّل حل السؤال بالمُعجزه إن الحل الوحيد هو المُعجزه فعلاً، قد يكون البديل المنطقي أقل إثاره وأقل دعماً لفِكر المجموعه وبالتالي مكانش عنده قابلية الإنتشار. يعني مش عشان اللي حكالك القصه بيصيغها كأنها دايره مُغلقه ومُحكمه منطقياً تخدم إستنتاجه للمعجزه إن الأرجح هو إن المُعجزه حصلت فعلاً، لازم تكون فاهم إن هدفه للكتابه ولنشر المعلومه هو هدف بالضروره يخِدم تعريفه لنفسه ويؤكد صِدق أطروحة جماعته، مش فقط سرد للحقائق المُجرَّده، وكل ما ده بيتشابك مع أدوات الأدب اللي بتستخدم بشكل واسِع للإقناع وللإضفاء مصداقيه على الأخبار المؤدلجه كل ما كانت مهمة المؤرخ أكثر صعوبه والوصول للتاريخ أكثر تعقيداً، خصوصاً في الحالات البعيده زمنياً اللي بتغيب فيها إمكانية إستجواب الشهود وتحليل كلامهم الشفوي بشكل مباشر.

خليني أديك مثال -لا على سبيل الحصر- ممكن يفسر الموقف. دلوقتي الناس دي خرجت جثمان وعملتله ضريح، وده يتفق مع فِكر المجموعه والوازِع الديني بتاعها، والأضرحه دي بجانِب الوازِع الديني هايكون حواليها نشاط مالي بشكلٍ ما، سواء من تربعات أو نذور أو غيره، وفي عيله بينتسب ليها الشخص صاحب الضريح وهاتكتسب سمعه من الموضوع، هل من المُحتمل إن كل طرف لقا في الموقف عِلَّه تخلِّه يصدق القصه وينشرها؟ هل الجموع لقت وازِع ديني؟ اه وارد جداً، هل أفراد العيله عندهم دافِع عاطفي لتكريم الشيخ الكبير اللي في عيليتهم؟ اه وارد، هل مُحتمل يكون في وازِع مادِّي حتى لو لم يتم ذكره ولا تصديره لأنه هاينفَّر الناس ويجذب إنتباه الشرطه؟ اه وارد جداً، مش شرط كل المعيطات دي تكون متبقيه في رواية الجماعه اللي هدفها أساساً أيديولوجي، لكن مش معنى إنها موصلتش داخل رواية الجماعه إن يتم نفيها تماماً، لأن كل الإحتمالات دي أكثر وروداً من الرؤى الجماعيه في النوم. على الأرجح الرؤيا الجماعيه هي مُعجزة جماعه معينه بتأصل بيها لنفسها على المستوى الواسِع، وعلى المُستوى الضيق في حد عند مصلحه ما إما بالسمعه الحسنه أو المصلحه الماديه.

Similar Posts